ازمة لبنانالاحدث
ما هي الأضرار التي ستلحق بلبنان في حال إدراجه على اللائحة الرماديَة لمجموعة “فاتف” وماهيّة الجهود المبذولة لتجنّب هذه اللائحة؟ بقلم د. رنا منصور
في ظل الوضع الاقتصاديّ المترديّ الذي يعيشه لبنان، تأتي مخاوف إدراجه على اللائحة الرماديّة لمجموعة العمل الماليّ “فاتف” Financial Action Task Force (FATF))) لتزيد من تعقيد الأزمة، لا سيّما أنّ هذه المنظّمة الدوليّة، التي تأسست في العام 1989، تُعنى بوضع معايير لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلّح، وتقوم بتقويم مدى التزام الدول بهذه المعايّير. وبذلك، فإنّ إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة يعني خضوعها لمراقبة مشدّدة وضرورة التزامها بمعالجة القصور والخلل في أنظمتها الماليّة خلال فترة زمنيّة محدّدة. كما أنّ انضمام لبنان إلى هذه اللائحة سيكون له آثار مدمّرة على اقتصاده ونظامه المصرفيّ.
كان لبنان في السابق مُدرجاً على اللائحة السوداء للدول غير المتعاونة في العام 2000، لكنّه تمكّن في العام 2001 من الخروج منها بفضل سلسلة من القوانين والإجراءات التي شملت مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وإنشاء وحدة الامتثال في هيئة التحقيق الخاصة التابعة لمصرف لبنان. إلّا أنّ الإنهيار الماليّ في العام 2019 أدّى إلى تدهور الوضع الاقتصاديّ بشكل كبير، ممّا أعاد لبنان إلى الواجهة فيما يتعلّق بقضايا غسل الأموال وتمويل الإرهاب. كما أنّ انتشار التعاملات النقديّة نتيجة فقدان الثقة في النظام المصرفيّ زاد من صعوبة تنفيذ الإصلاحات الماليّة المطلوبة. أتناول فيما يلي الأضرار المتوقّعة في حال إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة وماهيّة الجهود المبذولة لتجنّب هذه اللائحة.
أولاً: الأضرار المتوقّعة في حال إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة
1. الأضرار التي ستصيب النشاط المصرفيّ وعمليّات تحويل الأموال:
إنّ إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة سيؤثّر بشكل كبير على القطاع المصرفيّ، وعلى هذا سيصبح فتح الإعتمادات المستنديّة لتمويل الإستيراد والتصدير، الذي بلغ مجموع ما استورده لبنان 19 مليار دولار أميركيّ في العام الماضيّ، أكثر تعقيداً. فضلًا على أنّ العمليات المصرفيّة ستكون تحت مراقبة دقيقة، ممّا يعني أنّ أي تحويل ماليّ سيحتاج إلى توثيق مكثّف وإجراءات تدقيق إضافيّة، ممّا يزيد من التكاليف والوقت المستغرق في إجراء العمليات الماليّة.
2. الإضرار بالعلاقات مع المصارف المراسلة:
قد تؤدّي خطوة الإدراج على اللائحة الرماديّة إلى انسحاب تدريجيّ للبنوك المراسلة التي تتعامل مع البنوك اللبنانيّة، أو على الأقل تشديد شروطها بالتعامل معها، ممّا سيزيد من عزلة لبنان الماليّة ويُعقّد العمليّات المصرفيّة اليوميّة. علاوة على أنّ المصارف المراسلة قد تفرض قيوداً صارمة على المعاملات، ممّا يعرقل التجارة الدوليّة ويجعل من الصعب على الشركات اللبنانيّة الإستمرار في العمل.
3- زيادة تكاليف الإقتراض وصعوبة الإستحصال على تمويل دوليّ:
إن هذه الخطوة ستؤدي إلى زيادة في تكاليف الإقتراض وصعوبة أكبر في الإستحصال على تمويل دوليّ، ممّا قد يؤدي إلى خروج المصارف الصغيرة من السوق. أضف إلى أنّ المؤسّسات الماليّة الدوليّة قد تتردّد في تقديم القروض أو الاستثمارات في بيئة تُصنّف بأنّها عالية المخاطر.
4- زيادة الاعتماد على الاقتصاد النقديّ واستفحال جرائم تبيّيض الأموال:
إنّ هذه الخطوة ستؤدي حكماً إلى زيادة الاعتماد على الاقتصاد النقديّ كنتيجة لفقدان الثقة في النظام المصرفيّ، ممّا قد يُعزّز من فرص تبيّيض الأموال. وبذلك، ستتزايد الشكوك في عمليات تحويل الأموال، كما ستزداد صعوبة ضبط النظام الماليّ. فضلًا على أنّ استخدام النقد بشكل واسع يمكن أن يؤدي إلى فقدان القدرة على تتبّع الأموال ومراقبة الأنشطة الماليّة، ممّا يخلق بيئة مثاليّة للأنشطة غير القانونيّة.
ثانيًا: ماهيّة الجهود المبذولة لتجنّب اللائحة الرماديّة
قام حاكم مَصْرِف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، بزيارة إلى الولايات المتّحدة حيث التقى بمسؤولين من وزارتَيْ الخارجيّة والخزانة الأميركيّة، وصندوق النقد الدَّوْليّ، والبنك الدَّوْليّ. وخلال هذه الزيارة، نجح منصوري في الحصول على تعهّدات بعدم قطع الشريان الماليّ والسيولة عن لبنان في حال إدراجه على اللائحة الرماديّة، وأكّد على أهميّة الإجراءات التي يتّخذها مَصْرِف لبنان والمصارف لتتماشى مع القوانين الدوليّة ومعايّير الشفافيّة. ولكن رغم التطمينات والوعود بالمساعدة من قبل جهات بريطانيّة وفرنسيّة، يبقى القرار النهائيّ مرهوناً باجتماع أعضاء “فاتف” في أيلول المقبل. وبذلك، يبقى السؤال الرئيس: هل يمكن للبنان أن ينفّذ الإصلاحات المطلوبة إذا مُنح تمديداً جديداً؟ برأييّ، إنّ التحديات السياسيّة والاقتصاديّة التي يواجهها لبنان تجعل من الصعب التنبّؤ بقدرته على الامتثال للمعايّير الدوليّة خلال فترة زمنيّة قصيرة. إلّا أنّه من الجيّد أنّ منصوري تمكّن من إقناع المسؤولين في واشنطن بأنّ إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة سوف يضرّ بالمجتمع الدوليّ، لأنّه سيعزّز اعتماد سياسة الـ”كاش” ويزيد من جرائم تبيّيض الأموال في لبنان، ووجود اقتصاد ودورة ماليّة لبنانيّة خارج المراقبة، الأمر الذي تخشى منه دول الغرب. وبذلك، اقتنع المسؤولون الأميركيّون بوجهة نظره، لا سيّما أنّه وعدهم باتّخاذ المصرف المركزيّ لتدابير وإجراءات لوقف التعامل بالـ “كاش” في لبنان والعودة إلى اعتماد بطاقات الإئتمان، وهذا ما أثار اهتمامهم، كونه يؤدّي في نهاية المطاف إلى تعزيز الشفافيّة الماليّة ومكافحة الأنشطة الماليّة غير المشروعة. ولكنني كأستاذة ورئيسة قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية سابقاً، أرى بأنّه بفعل الأزمة الماليّة والمصرفيّة، أصبح لدى لبنان ما يُسمّى باقتصاد الـ”كاش” كنتيجة مباشرة من عدم الثقة بالقطاع المصرفيّ حيث لم يعد أحد يُقدِم على وضع أمواله بالمصارف، وبذلك من الصعب أن يتمكّن من مكافحة عمليات تبيّيض الأموال أو غيرها، بالإضافة إلى صعوبة مكافحة الأنشطة الإجراميّة وتهريب الأموال والبضائع نتيجة الحدود المفتوحة، ما يُهدّد أيضاً بوضع لبنان على اللائحة الرماديّة لمجموعة العمل الماليّ “فاتف”. وعليه، يُقتضى من الدولة اللبنانيّة ضبط الحدود والحركة النقديّة والماليّة بشكل سليم، إضافة إلى التهرّب الضريبيّ والجمركيّ. ولكنّني أُثني على الإجراءات الجديّة التي يتّخذها منصوري في محاولة تجنيب لبنان الكوارث المتأتيّة من وضعه على اللائحة الرماديّة، وذلك من خلال التعاون مع القطاع المصرفيّ ووزارة المال. لا سيّما بعدما اتّخذ الأخير قراراً قضى بموجبه بتنظيم ميزانيّاته بمطلوباتها وموجوداتها بما يراعي الأصول الماليّة الدوليّة، من أجل إعطاء صورة عن لبنان تظهره أنّه يلتزم بالمعايّير الدوليّة، ومن أجل امتلاك مؤشّرات ماليّة شفافة حقيقةً، خصوصاً أنّ إجراءه هذا يشمل تسجيل كافة العمليّات النقديّة بشكل دقيق وعلميّ وثابت من أجل التأكّد من مصدر هذه الأموال.
كما أنّه لا يمكنني إلّا أن أقرّ بأنّ المصارف التجاريّة اللبنانيّة، التي كان الجميع يعترض على سياساتها، بذلت جهوداً بنّاءة في إطار السير على النهج الماليّ السليم، إذ إنّها بدأت تتشدّد اليوم كثيراً في ما يتعلق بمعايّير الشفافية النقديّة والماليّة، وتطلب دائماً أوراقاً ثبوتيّة في حال أراد أحد وضع أي مبلغ نقديّ من أجل التأكّد من مصدر المبلغ وصحة الأموال. كذلك الحال، إذا أراد أحد فتح حساب استيراد حيت يجري تسجيل هذه الأرقام والمبالغ والتأكّد من مصدرها سواء كان مصدر عمليات بيع وشراء أو مصدر آخر.
ختاماً، أشدّد على ضرورة أن تتّخذ الدولة اللبنانيّة إجراءات جديّة تتعلّق بمكافحة جرائم تبيّيض الأموال والتهرّب الضريبيّ والجمركيّ ومراقبة الحدود والتأكّد من مصدر البضائع التي تدخل إلى لبنان، والتدقيق فيمَا إذا كانت الأموال المحوّلة إليه شرعيّة أم غير شرعيّة.
كما أطالبها بإقرار الإصلاحات الضروريّة لتعزيز القدرة على مراقبة الحدود ومنع تهريب الأموال والبضائع، وتطوير نظام ضريبيّ فعّال يُمكنه تعقّب ومنع التهرّب الضريبيّ، فضلًا عن تحسين الأداء القضائيّ لضمان تنفيذ القوانين المتعلّقة بمكافحة تبيّيض الأموال وتمويل الإرهاب. وبالأخص، لأنّ تخلّف الدولة عن إقرار الإصلاحات سيؤدّي حتماً إلى إدراجها على اللائحة الرماديّة لـ”فاتف” وسيكون له تداعيات اقتصاديّة خطيرة على النظام المصرفيّ والاقتصاد اللبنانيّ بشكل عام.
وعلى هذا، فمن الضروريّ أن تتحرّك الحكومة اللبنانيّة بشكل جديّ وسريع لتنفيذ ما يُطلب منها دوليّاً من إصلاحات متعلّقة بمكافحة الجرائم الدوليّة وتعزيز الشفافيّة في العمليات الماليّة. كما أرجو أن ألقى آذاناً صاغية من المسؤولين وإدراكاً بأنّ العواقب القادمة قد تكون أكثر تعقيداً إذا ما اصطدم لبنان مع الغرب، وهذا ما سيؤدي إلى أزمات اقتصاديّة وماليّة جديدة وخطيرة ويزيد من عزلته على الساحة الماليّة الدوليّة.