بين اعتكاف واستنكاف وامتناع وعزوف، يبقى اعتزال العمل السياسي أفضل الخيارات | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
عاد الرَّئيس سعد الحريري هذه المرَّة وبعد طولِ غيابٍ وشِبهِ انقِطاعٍ لأخبارِه، تماماً كما درجَ على فعله في السَّنواتِ الأخيرةِ. عاد وكانت باكورَةُ زياراتِهِ للمَسؤولينَ “الحُلفاء” كما يُحِبُّ أن يُسمِّهم”، ليُبلِغَهم بعُزوفِهِ عن التَّرشُّحِ إلى الانتِخاباتِ البرلُمانيَّة، وزارَ مُفتي الجُمهورِيَّةِ “بروتوكولِيَّاً” وليُباركَ له الأخيرَ عَودتَه الميمونة، وأنه في برنامجهِ المزيدِ من اللقاءاتِ بما في ذلك كبارُ المَسؤولين في تيَّارِهِ ومُحازِبيهِ والمُقرَّبينَ من حَولِهِ، ليُطلِعَهُم على موقِفِهِ وأنَّهُ سيترُكَ لهم الخيارَ في بناءِ التَّحالُفاتِ السِّياسِيَّةِ في ما خصَّ الانتخاباتِ المزعومة، وربَّما يتدخَّلُ أم لا في تحديدِ أسماءِ المُرشَّحين عن التَّيارِ وفي أيِّةِ دوائرَ وعن أيَّةِ مقاعِدَ انتخابيَّة. وأنَّهُ سيتركَ لهم تمويلَ وإدارةَ المعركَةِ الانتِخابِيَّة، وربَّما سيتركُ الخيارَ مُتاحاً لمن يرغبَ من يرغب منهم في الترَشُّحِ كمُستقل. ولم يغب عنه زيارة ضَريحِ والدِهِ صاحِبُ الإرثِ السياسيِّ والنَّهضةِ العمرانيَّة التي عرفها لبنان خلال التَّسعينات، وذلك كي يَستسمِحَهُ لكونهُ عاجزٌ عن إصلاحِ مَّا آلت إليهِ أوضاع التيار والطائفة ولبنانَ وشَعبِهِ وعاصِمَتِهِ الكليمَة بيروت.
قد يكون ثمَّةَ من نصحَ الرَّئيسَ الحريري بعدَمِ التَّرشُّحِ ليس فقط لتَراجُعِ شَعبيَّتِه، ولكن أُسوَةً بما سَلَكَهُ مُعظَمُ القِياداتِ السِّياسِيَّةِ ومنهم سمير جعجع وسليمان فرنجيَّة ووليد جنبلاط، باستثناء رئيس حركة أمل، الذي ألتزمَ بمقولتِهِ السَّابقةِ ولو ظاهِريَّا لغايةِ الآن “بأنه ليس مع التَّوريثِ السِّياسي”. والفِكرَةُ المُروَّجِ لها تقومُ على قِيام الزَّعيم باختيارِ وتبني مُرشَّحين لعددٍ من المَقاعِدِ النِّيابِيَّة، ينضوون عندَ فوزِهِم في كُتلَةٍ برلُمانِيَّةٍ تتولى تَمثيلَ المَرجعيَّة والحِزبِ أو التَّيَّارِ في النَّدوةِ البرلُمانِيَّة.
أيا تكن الأسباب خلف العزوف فإن الأمور قد تبدلت، بدءا بتيارُ المُستبلِ الذي كان يعتبرُ أيَّامَ الرئيس الشَّهيد تيَّاراً عارِماً وازناً جارِفاً، خارَت قِواهُ وهَزُلَت معنويَّاتُه جرَّاء النَّكساتِ المُتلاحِقَةِ التي مُنِيَ بها نتيجة تقلبات مواقف الرئيس سعد. ولطالما شكَّلَ هذا التيَّار حالةً شعبيَّةً عابرةً للطَّوائفِ بعد الحرب الأهليَّة، ووفَّرَ لمؤسِّسِهِ حالةً شعبيَّةً داعِمَةً مُتنوِّعةً غنيَّةً بثقافتها ومُستواها العِلمي. لم يلقَها أحدٌ من السياسيين منذ ولادة لبنان؛ ووَصَلَت أوجَها على أثر استشهاد المؤسِّسِ نتيجةَ حالة التَّعاطِفِ مع العائلةِ والإلتفاف الوطني حول مطالبِ استِعادَةِ السِّيادَةِ اللبنانيَّة ورَفعِ يدِ النِّظامِ السُّوري الحاكِم عن التَّدخُّلِ في الشُّؤونِ اللبنانيَّةِ وانسِحابِ قواتِه منه.
كل من يعرفُ دولة الرئيس سَعدِ الحريري يثني على طيبَةِ قلبِهِ وعَفويَّتِهِ وحُبَّهِ لبيروتَ وأهلِها، وإخلاصِهِ للبنان كوطن، وأن من طِباعِهِ الهدوءَ والتَّجاوبَ وعدم التَّطلب. ويُنسَب إليه البعضُ أنه يبالغ في ثقته بالآخرين، إلى حد كان يكتفي بما يُطلِعُهُ عليه المُحيطون به والذين يتولون حِمايَتهُ وأمنه وكل ذلك اذا ما أضيف الى تغيبه المتكرر عن الساحة اللبنانية جعلة بعيدا عن الاحاطة الحقيقية بمثير من الامور على المستوى الوطني.
مشكلة الرئيس سعد الحريري كانت مع جوقة المطبلين والمزمرين والمقاولين ومن خفت موازينهم في ميزان السياسة، والذين كانوا يسعون دائما لتكييف مواقفه مع مشاريعهم وصفقاتهم، وميولهم واهوائهم الشخصية ولهذه الأسباب دأبوا على تغييبُ العديدِ من مُستشاري والدِهِ عن الساحة، فأغقدوه الرأي المتجرد الوازن. المبني عاى خُبراتٍ واسِعَةِ في خَبايا السِّياسَةِ اللُّبنانِيَّة.
إن الانتِكاساتِ المُتلاحِقَةِ التي مُنِيَ بها تَيَّارُ المُستقبَل، والتي دفَعَت ثَمنُهُ غالِيَاً الطَّائفةُ السُّنيَّةِ بالتَّحديد، ومن خلفها لبنان، ليست وليدةَ ليلة وضُحاها، إنما نتاج تراكُمِ عددٍ كبيرٍ من الأخطاءِ السِّاسيَّةِ التي حصلت في ظِلِّ عوَاملَ دوليَّة وإقليميَّة ووطنيَّة مُتشعِّبةٍ ومُتداخِلَة. ويمكنُ تغليفها بتوصيفِ سوء التَّدبيرِ الذي طَغى على مُعظَمِ المُقارباتِ والمَواقِفِ السِّياسيَّةِ التي انتهجَها دولةُ الرئيس الإبن وتيَّارُهُ خلال الفترةِ المُمتدَّةِ من بدايات العام 2005 ولغايَةِ اليوم. في البدئ عُزِيَ الأمرُ لطَراوَةِ عودِهِ ولافتقاده للخِبرَة والحنكة السِّياسيَّةِ قياساً على باقي السِّياسيينَ المَخضرمين، والذين يُشبِّهُهم البعض بذئاب السياسة، ما إن تضعُفَ فريستُهُم حتى يَنقضون عليها وينهشون جِسدها.
راهنَ البعضُ على تحسُّنِ أداءِ الرئيس وثبات مواقفه مع مرور الأيَّامِ والسنوات بعد أن تعرض لصفعات مؤلمة وواجه أزمات حادة باعتبارها دروسا بحد ذاتها، إلاَّ أن ذلك لم يكن في محلِّهِ إذ تكرَّرتِ الأخطاءُ القاتلةُ واحدة تلو الأخرى، وليتبيَّنَ مع مرورِ الوقت أن الأمرَ لم يعد يقتصرُ على الافتقارِ لمَهارة من مهارات العمل السياسي، كإلقاءِ الخُطَابات، بل يشمل مزايا أساسية كالحِكمةِ السِّياسِيَّة، والتَّبَصُّرِ في عًمْقِ الأُمورِ ومآلاتِها، ودراسةِ وتحليلِ المُتغيراتِ السِّياسِيَّةِ واستِشرافِ أبعادِها، كما لافتقاده لصلابة الموقف والقُدرَةِ على الثبات بالمواقف في الاوقات الحرجة، ومُجابَهَةِ التَّحَدِّياتِ باتِّخاذِ خَياراتٍ استِثنائيَّة وجريئةٍ.
كذلك يؤخذُ عليه تسرُّعُهُ في إثارة المثير من الأمور في اوقات غير مناسبة، كما في بناء تحالفاته، واستفرادُهُ باتخاذِ القراراتِ المصيريَّة والتي كان يَخرُجُ منها بالإجمال خاسِراً مُنكفئا مُهشَّماً سِياسِيَّا، وغالبا ما كانت طائفته تدفع الثمن الأكبر.
يعز البعضُ عدمَ رَغبَةِ ترشُّحِ الرئيس الحريري إلى النَّدوَةِ البرلُمانيَّة لوَضعِهِ المادِّي الذي لم يَعُد على شَيءٍ مما كان عليه عند استشهادِ والده، كما إلى حالةِ الانهيار التام التي شَهِدَتها وتَشهَدُها شَركاتُهُ ومؤسَّساتُه خارج لبنان وداخِلَه. والتي تتطلَّبُ منه مُتابعةً حثيثةً، لاستنهاضها مُجدَّدا، ولكن هذه المَرَّةِ في ظُروفٍ دَولِيَّة وإقليميَّةٍ صَعبَةٍ سِياسِيَّاً واقتِصادِيَّا وعَسكريَّاً. كُلُّ ذلك أضيف إليهِ رَفعُ الغَطاءُ السِّياسِيُّ عنه أو فقدِهِ الحَظوَةَ التي كان يَحَظى بها بُعَيدَ استِشهادِ والدَه على المستويين الدولي والعربي. فبعدَ أن كانَ أشبه بالولدِ المدلل لدى دول الخليج أمسى في حال أقربُ إلى الخُصومَةِ مع النَّافذين في المملكةِ العربيَّةِ السُّعوديَّة.
ربَّ مُشكِّكٍ يسأل: هل الحريري يتعمَّدَ الغيابَ عن الأنظارِ والالتزامِ بالصَّمتِ أو الإقلالِ من الكَلامِ الخ…، بهدفِ إثارةِ طَرحِ التَّكهُّناتِ والتَّساؤلاتِ حوله ومن ثمَّ يظهرُ فجأةً لشد انتباهِ الرَّأي العام إليه، وهي لُعبَةٌ إن صحَّت فقد بالغ باعتمادها، من خِلالِ تكرارِ التَّغيُّبِ والانقِطاعِ عن السَّاحَةِ اللبنانِيَّة التي لم تعد تحتملُ مثل هذا الاستخفاف.
والسؤال المطروح هل الحريري هذه المَّرَّةَ قد تَعمَّد الانقِطاعِ عن السَّاحة السياسيَّةِ اللبنانيَّة استِعطافاً للرأي العام اللبناني والسُّني بالتَّحديد؟ أم أنه تغيَّب وعادَ ليَستعطِفَ بذلك الرَّأي العام السني؟ أو ليقول ظاهريَّاً لا أرغبُ في الاستمِرارِ في العَملِ السِّياسي، ليُتيحَ المَجالِ أمامَ مُناصِريهِ ومؤيِّديهِ للقيام بتخريجة “مُناشدتِهِ العَودَةَ عن هذا قرار،” ليعودُ بعد ذلك ليُعلِنَ أنَّه تراجَعَ عن قرارِهِ نزولاً عند رَغبَةِ الجماهيرِ الشَّعبِيَّة؟ كُلُّ ذلك من أجلِ إظهارِ نفسِهِ كزعيمٌ وسطي لا يُستغنى عنه؟ وهل لم يحتسب لمغبة المبالغة في اعتداله، بحيث يسهل توصيف باقي مكونات الطائفة بالمتشددين،؟؟؟ ام كل ما تغياه بمناةرته هذه محاولة لاستِجماع ما تبقى من قِوى تيَّارِهِ المُنهك ؟ والذي أنهكته مواقفه ابمتقلبة؟، وفي هذا الإطارِ نسألُ أيجوزُ بعد كُلِّ ما حصلَ ويحصلُ الاستمرارَ في مقاربةِ المسائلِ السياسيَّةِ العامَّةِ بهذا المُستوى من الخِفَّة أو الاستخفاف بعقولِ الناس.
وإذا كان يرى في قرار ه العزوف عن الترشح حلا، أو أفضل الخيارات المتاحة أمامه، وربما أكثرها تعبيرا عن التعغف والشَّهامة، فهل الاعتكاف هو حل عن تخل عن واجب التصدي لحالة ساهم هو وغيره من باقي المكونات الوطنية في إيصال البلد إليها؟ نتيجة المسايرة والتراخي في مسائل جوهرية.
لكم كان من الأفضل لو ان دولته أجرى جردة تقييمية متجردة لأدائه ومواقفه لكان خلص إلى جملة من الخلاصات أهمها:
– الفشِلَ في الحِفاظِ على الإرثِ السِّياسي الذي ورِثَهُ عن والدِه.
– خسارو كل أشكال الدعم الخارجي والخليجي على وجه الخصوص.
-خسارَة حيِّز كبيرٍ من حالةِ الإستِعطافِ والإلتفافِ والتأييد الشعبي الذي حَظِيَ بها في أولِ حياتِهِ السِّياسِيَّة.
– الافتقادُ للكثير من المزايا الريادية، -استبعاد كِبارِ المُفكِّرين والمُحللين السِّياسيين الذين كان يستمِع إليهم والده ويعمل بنصائحهم، والاستعاضة عنهم بهواة وربما متطفلين.
– تهميش لكل المثقفين وأصحاب الكفاءة والمواقف ابجريئة في طائفته، لكونهم يأبون التذلل للحاشية.
– إخفاق في تَشكيلٍ حِزبٍ سِياسيٍّ مُنظَّمٍ واعد، لعدمِ بلورةِ إيديولوجيَّةٍ جامِعَةٍ على المُستوى الوطني، بل بقي التيَّارَ أقربُ إلى حالَةٍ من الارتباطِ الوجداني بين الشَّعبِ ودولة الرئيس الشَّهيد.
– فشل في قيادة طائفته على نحو يحفظ لها مكانتها وهيبتها بين باقي المكونات الطائفية الوطنية.
– الرضوخ لخيارت تخالف روحية اتفاق الطائف وأهمها السير بقانون انتخابي غير متوازن، (باعتماد الصوت التفضيلي)، ما أوقع لبنان مجددا في أتون خطابات ومواقف فئوية طائفية ومذهبية.
إن أكثرَ أوجه الملامة على الرَّئيس الحريري تتمثل في تسرُّعهُ في قراراته السياسيَّةِ، كما في سرعة العَودَةِ عنها، وأخطرُ ما في ذلك خياراتِهِ الاستفرادية الانهزامِيَّة، المتمثلة في تّخليه عن خياراتِهِ وخياراتِ حُلفائهِ، والرضوخ لإملاءاتِ الخُصومِ. تلك الخياراتُ التي انطوت على تَحوُّلاتٍ غير مدروسةٍ وغيرِ مُبرَّرةٍ يَصعُبُ عليه كما على الغَيرِ تبريرَها.
نعم إن تبدل مواقفه تجاه أمور استراتيجِيَّةٍ جَوهَرِيَّة أفقدته الامساكَ بزمام الأمورِ أكثرَ من مَرَّة، ونتجَ عنها مخاطرَ جسيمةٍ على أكثرِ من صَعيدٍ.
لقد سرَّعَت تلك التهورات أو الخيارت غير المدروسة رغم تنبيهه من مخاطرها من وتيرَةِ انزِلاقِ البَلَدِ إلى هذا المُنزلَقِ الخَطيرِ الذي يتخبَّطُ فيه منذ أكثرَ من خمسِ سنوات.
كُلُّ ذلكَ حصلَ ويحصلُ في ظِلِّ عمليَّةِ خلطٍ للأوراقِ أو إعادةِ تكوينٍ لمِنطَقَةِ الشَّرقِ الأوسط. وما يرافقُ ذلك من نِزاعاتٍ سِياسِيَّة وصِراعاتٍ مُسلَّحَةٍ بين أقطابٍ إقليميينَ وآخرين دَوليين ولو بالواسِطَة، على امتدادِ مَسرحِ عمليَّاتٍ واسِعٍ النطاق وبعيداً عن أراضي المُتصارِعين الحَقيقيين، رغم امتدادِها من اليَمَن إلى فلسطين المٌحتلَّةِ، يسعى كُلٌّ من الأقطابِ المُتناحِرَةِ إلى إثباتِ موقعه ومدى تفوُّقِهِ، أو قٌدرَتِهِ على مناوَءَةِ الخصوم وعَدَمِ تَركِهم يرتاحون. مٌشاكَساتٌ تنطوي على مُناوشاتٍ عَسكرِيَّةِ وأمنيَّةِ موجِعَةٍ عسكريَّاً حيناً، وتحملُ تهديداتٍ أمنيَّةٍ إرهابيَّةٍ حيناً آخر. رَسائلُ غيرِ مكتوبةٍ ولكنَّها تقرأ من الوسائلِ التي اعتُمِدت في إيصالِها، والتي تميَّزت ما بين طائراتٍ حَربيَّةٍ أو صَواريخَ بالستيَّةِ أو مُسيَّرات جويَّة.
ثمَّة من بقولٌ بأن الطَّائفةُ السُّنيَّةَ في لبنانَ أضحت يتيمةً باستِشهادِ الرَّئيسِ رَفيقِ الحريري، بعدَ أن همَّشَ باقي الزَّعاماتِ السُّنيَّةِ التَّقليديَّة، وغِيابِ أيِّ حُضورٍ وازنٍ لأيٍّ ممن أتى بهم، وثَّمَّةَ من يقولُ أنَّها طائفةٌ تبدو وكأنَّها مَحجورٌ عليها، منذُ أن تولى النِّظامٌ السُّوريُّ الإشرافَ على تنفيذِ اتِّفاقِ الطَّائف، حيثُ تعمَّدَ إفقادَها كُلِّ عناصِرِ القُوَّةِ بما في ذلك ما كانت عليه قبلَ اتِّفاقِ الطَّائف. وأن مَعالِمَ الوَهنِ بدت عليها مُنذُ الاجتياحِ الاسرائيلي عام 1982، وسَحبِ مُقاتلي منظَّمةِ التَّحرير الفلسطينيَّةِ إلى تونس، وتجريدِ قواها من أسِلحِتهم وضَربِ مُعظمِ المُدن ذاتِ الأغلبيَّة السنية، وإخضاعِ رُموزِها أو تَهجيرِهِم أو تَدجينِهِم، فخَلَت السَّاحَةُ من أيِّ مُكوِّنٍ وازنٍ فيها. فتسبَّبَ ذلك باختلالِ التَّوازُنُ بين مختلفِ المُكوِّناتِ الوَطنِيَّةِ الأساسيَّة. وبانسِحابِ القوَّاتِ السوريَّةِ من لبنان، أوكلت الوِصايَةُ إلى طَوائفَ أخرى، فأمعنت في تهميشها إلى حد اختيارِ مسؤوليها، وتَحديدِ من يجب أن يشغُلَ المناصبَ الرياديَّةِ الخاصَّةِ بها فسادت لغةُ التَّودُّدِ والتَّزلُّفُ للمَسؤولينَ في الطَّوائفِ المُتحكِّمةِ باللعبةِ السِّياسِيَّة.
ويستغرقَ فريقٌ ثالثٌ في اليأسِ فيقول إن هذه الطَّائفةُ تُعاني من مُعضِلةٍ مَرَضِيَّةٍ نَفسِيَّةٍ انهِزامِيَّةٍ منذُ أن كُسِرَت شَوكَتَها لأوَّلِ مرَّةٍ في ظِلِّ الاجتياحِ الإسرائيلي، تعافَت منها بعضَ الشَّيء مع سُطوعِ نجمِ الرئيس رفيق الحريري، كلاعبٍ دوليٍّ وإقليمي، وصاحبِ مشروعٍ إعماريٍّ ريادي، أعاد للبنان وعاصمَتِهِ بيروت وهجَهُما وازدهارَهُما وتألُّقَهُما إقليميَّاً ودوليَّا. ما لبثت أن عادت حالةُ الإنكِسارِ لتَطغى مُجدَّداً ناشرةً موجةً من الإحباط، لم تتعاف منها الطَّائفةُ ولن تتعافى منها سواءَ بعودَةِ الرَّئيس الحريري الإبن أو بوجود غيرِهِ من الزَّعاماتِ السُّنيَّةِ الحاليين، ما لم ينتفضوا على أنفُسِهِم ويباعدوا عن منهجيَّةِ استجداءِ المناصِبِ السِّياسيَّة، وفي طليعتها رئاسةُ مجلسِ الوزراء. بل عليهم أن يسعوا إلى فرضٍ خياراتٍ وَطنِيَّةٍ مُتوازنة بالتَّوافقُ مع المُكوِّناتِ الطَّائفِيَّةِ والمذهبيَّة الأُخرى، والعملُ جدِّيَّاً للخُروجِ بلبنانَ من الإصطفاتِ الطَّائفيَّةِ والمَذهبيَّة وضرب محاولات استِقواءِ مُكوِّنٍ طائفيٍّ على المُكوِّناتِ الأخرى، اي باختصار العمل وفق روحية اتفاق الطائف.
وكي لا يشعُرَ البعضُ أننا نُحمِّلُ الرُّموزَ الحاليين لهذه الطَّائفةَ كامِلَ مَسؤوليَّةَ حالةِ الانحِطاطِ هذه، نتيجةَ غفلتِهم عن مُحاولاتِ التلاعبِ عليهِم، وزرعِ بذُور الفِرقَةِ في ما بينهم، واللعب على أوتارِ طُموحاتِهِم الشَّخصيَّةِ السُّلطَوِيَّة (الإسترئاسيَّة لموقِعِ رئاسةِ مجلِسِ الوزراء)، نذكِّرُ أنهم عَملوا على تَشكيلِ ما اصطُلِحَ على تسمِيتِهِ بنادي رُؤساءِ الحُكوماتِ السَّابقين، للتَّخفيفِ من فُرَصِ التَّفرقَةِ في ما بينهم، كما للتَّخفيفِ من وطأةِ الشُّعورِ العارمِ لدى الطَّائفةِ عامَّةً بالانكِسارِ والاستفراد. إلاَّ أنهم في المقابلِ بدوا وكأنَّهم يسعون إلى حصرِ تَسمِيَةِ رؤساءِ الحُكوماتِ في أعضاءِ ناديِهِم حصرا. وكانهم يسعون للامساك بالطائفة لا تحصين موقعها.
إن حالة الإحباط المشار إليها ليست محصورة في سنة لبنان، إنما هي ظاهرة إقليمية يعاني منها السنة في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان، منذ أن بدأ التآمر عيلها بدخول صدام حسين إلى الكويت ومن ثم ضربه وتدمير جيش العراق وصولا الى تعميم الفوضى في باقي الدول العربية والتنكيل بالسنة وتخييرهم ما بين القتل أو التهجير، وإحراق ممتلكاتهم.
إن الطَّائفة السُّنيَّةِ ليست فقط في لبنان يتيمة وكسيرة الخاطر، بل هي كذلك من يَمنِها إلى فلسطينها مرورا بالعراق وسوريا. وذلك منذ أن بدأ غير الأعراب في التدخل في شؤون تلك الدول، والعبث في أمنها. والمؤامرة كما نراها طويلة وخطيرة، تنخرط فيها دول كبرى وأخرى إقليمية ولم تتوضح بعد كل مكائدها.
والخِشيَةُ كُلِّ الخِشيَةِ من أن هذا الشَّعبَ اللبنانيُّ المِسكينُ سيدفعَ برُمَّتِهِ ثَمنَا باهِظاً لإضاعَةِ البعضِ لبوصلَتِهم العَرَبِيَّة، والاستِعاضَةِ عنها ببوصَلَةٍ لا تُشبِهُهُم، والمُستغرَّبُ أن هذا البعض سائرٌ أيضاً في استِبدالِ زَيِّه اللبناني بزَيِّ لا يَتوافَقُ مع مُتطلِّباتِ التَّضاريسِ الجيوسياسيَّةِ في لبنان، كما مع ثقافةِ اللبنانيين التي توارَثوها أبا عن جد. كُلُّ تلك الانحرافاتِ لن يَستطيعَ تذليلها سعدُ الحريري مع حفظِ الألقابِ ولا غيره من المسؤولين السياسيين الحاليين الذين ساهموا بشكل أو بآخر في تكريس حالة الانكسار والتساهل في الأمور المصيرية التي أبعدت لبنان خياراته الوطنية.
أن يقرر الرئيس الحريري العزوف عن الترشُّح فهذا شأنه وخيرا فعل، إلا إن الدعوة لمقاطعة الانتخابات النيابية فهذا العجب العجاب، إذ كان أجدى به أن يقرر ابعاد كل المحيطين الذين دفعوه لخياراته الخاطئة بدلا من أن يقرر إقصاء الطائفة السنية عن الساحة السياسية.
وأخيراً نختُمُ بالقولِ أن الشُّعورَ بالإحباطِ ظاهرة تطال كل اللبنانيين، وستلازمهم طالما افتَقدوا إلى التحلي بروح المسؤولية، والانتِماءِ الوَطني، وفشِلوا في حصرِ جُلَّ ولائِهم بالوَطَن، وسنبقى كذلك إلى أن ينبثقَ من ثنايا الشَّعب وربما بنتيجةِ هذا المخاضِ الثوري التَّغييري, قائدٌ تتجسَّدُ فيه كل تلك المعاني، ويُكرَّسُ كزعيمٍ وطنيٍّ بامتياز.