ازمة لبنانالاحدث

التَوَازُناتُ المَسِيحِيّة في لبنان: فقدانُ الثقة وتَعقيداتُ الرئاسةِ اللبنانية | بقلم البروفسور بيار الخوري

تَتَّسِمُ الانتخاباتُ الرئاسية في لبنان بتَشابُكٍ مُعَقَّدٍ بين المصالح والتحالُفات، حيثُ يُشكِّلُ فقدانُ الثقة بين رئيس حزب “القوات اللبنانية”، الدكتور سمير جعجع، ورئيس حزب “التيار الوطني الحر”، الوزير السابق النائب جبران باسيل، عنصرًا رئيسًا في صياغةِ مسارها. وعلى الرُغمِ من أنَّ الطرفَين يُمثّلان العَصَبَ المسيحي الأبرز، إلّا أنَّ علاقتهما مليئةٌ بالرَيبة والشكّ وعدم الثقة. ويَنعَكِسُ هذا الأمرُ على الموقفِ من تعديلِ الدستور المطلوب لترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون لرئاسة الجمهورية، حيث يُمكنُ للحزبَين أن يتقاطعا على مَنعِ هذا التعديل إذا ما ترشّح جعجع للرئاسة، لكنَّ هذا التقاطُعَ لا يعني بالضرورة دعمًا مباشرًا من باسيل لجعجع.

جعجع، من جهته، يُدركُ أهمّيةَ ضمانِ أوسع تأييدٍ علني وفعلي، بما في ذلك تأييد باسيل، قبل جلسة التاسع من كانون الثاني (يناير) المقبل، لأنَّ أيَّ اتفاقٍ ضمني على تعطيلِ تعديل الدستور قد يتركُ المجالَ لباسيل لإبرامِ تسويةٍ مع الثُنائي الشيعي، “حزب الله” و”أمل”، أو أطرافٍ أخرى. بدونِ تعهُّدٍ واضحٍ من باسيل بدعمِ ترشيح جعجع، فإنَّ حزبَ “القوات اللبنانية” سيجدُ نفسه في موقعٍ ضعيفٍ بعد تعطيل تعديل الدستور، ما قد يمنحُ باسيل ورقةَ تفاوُضٍ قويّة لفَرضِ أحد المرشحين الذين يقترحهم، مثل الوزير زياد بارود أو العميد الياس البيسري، فيما يجدُ باسيل أنَّ عدمَ تأييدِ جعجع العلني قد يدفع “القوات اللبنانية” إلى تأييدِ تعديلِ الدستور بما يجعل باسيل في موقعٍ ضعيفٍ في معركة الرئاسة.

في المُقابل، يُدركُ باسيل تمامًا أنَّ الثُنائي الشيعي يعي حجمَ الالتقاءِ المرحلي رُغمَ التوتّر بين جعجع وباسيل، ما يجعلُ من هذا الانقسام ورقةً رابحة بيد باسيل يستطيعُ استخدامها للتفاوُض على دَعمِ مُرشّحٍ يفضّله بالتنسيق مع الثنائي الشيعي. في هذا السياق، يُمكنُ للثنائي أن يمتنعَ عن دَعمِ تعديل الدستور المطلوب لترشيح العماد جوزيف عون، ما يُعزّزُ فُرَصَ الدَفعِ بمُرَشّحٍ توافُقي يحظى بقبولِ الثُنائي ويستبعد جعجع وعون.

هذا الواقع يَعكُسُ معضلةً أساسية: جعجع يسعى إلى تأمينِ دعمٍ علني وواضحٍ من باسيل قبل الجلسة النيابية لتجنُّبِ أيّ تحرُّكٍ مفاجئ قد يؤدّي إلى تعزيز حظوظ مُرشّحين آخرين، في حين أنَّ باسيل يستخدمُ هذا الدعم كورقةِ ضغطٍ للحصولِ على مكاسب سياسية أو فَرضِ مرشّحٍ ينسجمُ مع أجندته السياسية. الثقة المفقودة بين الطرفَين تجعلُ أيُّ تفاهُمٍ مشروطًا بتقديمِ ضماناتٍ مُتبادَلة، لكن هذه الضمانات تبقى رهينةَ حساباتٍ مُعقَّدة تتعلّقُ بتوازن القوى داخل البرلمان وفي الشارع المسيحي.

في ظلِّ هذا المشهد، تبدو جلسة التاسع من كانون الثاني (يناير) مَفصَلية، حيث سيَتحدّدُ فيها ما إذا كان الطرفان قادرَين على تجاوز خلافاتهما وبناءِ تحالُفٍ يضمنُ عدم خروج الرئاسة عن طوع الفريقين، أو ما إذا كانت التجاذُبات السياسية ستؤدّي إلى المزيد من التعقيد وإبقاء البلاد في حالةٍ تَعكُسُ مساوئ التنافر المسيحي.

السيناريوهات المُتعلّقة بوصولِ قائد الجيش العماد جوزيف عون إلى قصر بعبدا تتسم أيضًا بعدم الواقعية إذا ما استندت بشكلٍ أساسي إلى أصوات النواب المسلمين بشكلٍ رئيس. هذا النمط من الانتخاب قد يُعيدُ لبنان إلى حقبة العام 1990، حين فرضت التسويات الإقليمية والدولية رئيسًا بعيدًا من التوافق الداخلي، ما يُثيرُ حساسيةً كبرى داخل الساحة المسيحية. العماد عون، الذي يتمتّعُ بشخصيةٍ حازمة تُظهرُ حرصًا على الاستقلالية واحترام التوازُنات الوطنية، من غير المرجّح أن يقبلَ بأن يصلَ إلى سدة الرئاسة بهذه الطريقة. إذ يُدركُ أن ذلك سيضرُّ بشرعيته كرئيسٍ توافُقي ويُضعِفُ قدرته على الحُكمِ في ظلِّ مشهدٍ سياسي مُعَقّد ومشحونٍ بالانقسامات الطائفية.

وهذا يُضيفُ عقبةً إضافية أمام السيناريو الذي يعتمدُ على تعديل الدستور لانتخابِ عون، لأنه حتى في حال حصوله على دَعمِ بعض القوى الإسلامية الكبرى، فإنَّ افتقاده للتأييد المسيحي الواضح من “القوات اللبنانية” أو “التيار الوطني الحر” ستجعله يبدو مرشَّحًا مفروضًا، ما يُضعِفُ فُرَصَ استمراريته كرئيسٍ جامع، وهو ما يتناقضُ مع طبيعة موقع رئاسة الجمهورية في لبنان وطبيعة الرجل كرمزٍ للشراكة الوطنية.

إنَّ عدمَ نجاح البرلمان اللبناني في انتخابِ رئيسٍ للجمهورية خلال جلسة التاسع من كانون الثاني (يناير) يحملُ في طيّاته مخاطرَ جدّية تتعلّقُ باستمرارية عمل المؤسّسات الدستورية. فاستمرارُ الشغور الرئاسي قد يؤدّي إلى التشكيكِ بقدرةِ البرلمان الحالي على أداءِ واجباته الأساسية، ما يفتحُ البابَ على احتمالية الدعوة إلى انتخاباتٍ نيابية مُبكرة. هذا السيناريو يحمل تحدّيات كبيرة، خصوصًا أنَّ المجلسَ الحالي لم يَعُد يعكس التوازنات السياسية في لبنان والمنطقة، مما يفرض الحاجة إلى إعادة تشكيله. ومع ذلك، فإنَّ إجراءَ الانتخابات النيابية قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية يُمثّلُ مخاطرة كبيرة، إذ إنَّ غيابَ رأس الدولة خلال مرحلةٍ انتخابية انتقالية في ظلِّ التوتّرات الداخلية والإقليمية، خصوصًا في لبنان وسوريا، قد يؤدّي إلى المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار.

الأولوية في هذا السياق يجب أن تكون لانتخاب رئيسٍ قادرٍ على توحيد الأفرقاء وتأمين مظلّة ثقة سياسية لإدارة المرحلة المقبلة. فمن خلال انتخاب رئيس جديد، يمكن التمهيد لإطلاق ترتيبات حول إجراء انتخابات نيابية مبكرة تُعيد تشكيل الخريطة السياسية وفقًا للمعطيات المستجدّة. أما إجراء الانتخابات النيابية في ظلّ الشغور الرئاسي، فقد يُدخل البلاد في متاهةٍ من الصراعات السياسية والدستورية، ويُهدّدُ بتفاقُم الأزمة بدلًا من حلّها، خصوصًا في مرحلةٍ انتقاليةٍ حسّاسة تترقّبُ فيها المنطقة تطوّراتٍ كبرى.

كل ذلك يبدو مُمكنًا، ما لم يَكُن ما كُتِبَ قد كُتِبَ.

البروفسور بيار بولس الخوري ناشر الموقع

البروفسور بيار بولس الخوري اكاديمي وباحث، خبير في الاقتصاد والاقتصاد السياسي، يعمل حاليا مستشار ومرشد تربوي ومستشار اعمال. عمل خبيراً اقتصادياً في مجموعة من البنوك المركزية العربية وتخصص في صناعة سياسات الاقتصاد الكلي لدى معهد صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة. له اكثر من اربعين بحث علمي منشور في دوريات محكّمة دولياً واربع كتب نشرت في الولايات المتحدة والمانيا ولبنان تختص بإقتصاد وادارة التعليم العالي، ناشر موقع الملف الاستراتيجي وموقع بيروت يا بيروت المختص بالادب. منشأ بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة بوديو. كاتب مشارك في سلسلتي "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط" و" ١٧ تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان" المتوفرتان عبر امازون كيندل. في جعبته مئات المقابلات التلفزيونية والاذاعية والصحفية في لبنان والعالم العربي والعالم ومثلها مقالات في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية الرائدة. يشغل حالياً مركز نائب رئيس الجمعية العربية-الصينية للتعاون والتنمية وأمين سرّ الجمعية الاقتصادية اللبنانية وعميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى