الدبلوماسية الناعمة …الصين نموذجًا .. | بقلم علي الهماشي
الدبلوماسية الناعمة مصطلح جديد لكن ممارساته قديمة، ونستطيع القول إنها بدأت مع أول تبادل للسفراء بين البلدان، فالسفير عادة ما يكون الوجه الناعم لبلده، وفي حياتنا العامة التصقت لفظة الدبلوماسية بكل من يتصرف بأريحية ويبتعد عن إثارة المشاكل، أو يواجه المواقف المحرجة بطريقة سلمية فنقول : لقد تصرف بدبلوماسية.
و يعود تاريخ ومعنى الدبلوماسية الى عمق العلاقات بين البلدان، أو بين الامبروطوريات في التاريخ القديم.
و لاشك أن مفهومها قد ترسخ بتطور الدول، وتطور العلاقات بينها، و لا أُغالي إنه علمٌ قائم بذاته وتفرعت منها مفاهيم اخرى، لعل آخرها هي الدبلوماسية الناعمة، التي “قد تستطيع أنْ تحقق ما لم تحققه القوة العسكرية، وتستخدم فيها عوامل متعددة تخلق ضغطًا لدى البلدان الاخرى ” .
يشير المفهوم العلمي للدبلوماسية الناعمة إلى أنها “مزيج من الاتصالات والتفاعلات الرسمية بين الكيانات السياسية المعاصرة، أي الدول وغيرها من الفاعلين على المسرح الدولي، وذلك من خلال المؤسسات والجمعيات الأهلية غير الحكومية”.
وتمثّل الدبلوماسية الناعمة “ذلك النشاط الذي تبذله دولة ما، ممثلة بشعبها، لكسب الرأي العام خارج نشاط السفارات “.
وللدبلوماسية الناعمة الياتها المعروفة ومن خلالها يمكننا أن نتعرف عليها أكثر .
فالتعريف بالمثال من أفضل التعاريف، و سنتعرف أكثر على آليات الدبلوماسية الناعمة عندما استعرض النموذج الأمثل في استخدام الدبلوماسية الناعمة وهي الصين .
أدوات الدبلوماسية الصينية الناعمة :
الصين المثال الحي للدبلوماسية الناعمة حيث مارسته، ومازالت، بالرغم من أنها الدولة القوية التي تتطلع لزعامة العالم، لا بطريقة القوة او بالاحتلال العسكري، ولكن بطريقة صناعة الحرير إن جاز التعبير، حيث نرى أنها غير متعجلة في خطواتها، بل تمارس الدبلوماسية الناعمة في المواقع التي تتطلب ذلك.
لقد استخدمت الصين ما تملكه من عوامل قوة ثقافية، اقتصادية، مالية واستثمارية في بسط نفوذها أو لنقل لمحاولة امتدادها حول العالم دون أنْ تعلن أنها القطب الجديد في السياسة الدولية، وامتدت في الشرق الاوسط بشكل جعلها موضوع التقاء الخصماء ( الكيان والدول العربية ) لولا عملية طوفان الاقصى التي أجلت الكثير من المشاريع الاقتصادية في المنطقة، وربما كنا سنشهد راعيًا جديدا للشرق الاوسط هذه المرة من الناحية الاقتصادية، ونراها تلتقي مع (الكيان الصهيوني وايران ) بنفس الوتيرة أيضا، فعندما يتطلب حضورها في ايران لا تتوانى إن رأت مصلحتها في الحضور عند الطرف الاخر دون أن تتحرج !.
وربما اعطتها حرب اوكرانيا موقعًا عالميًا متميزا ومتقدما بخطوات في عملية حسابات دقيقة تخطوها هذه الدولة بدقة، وبنفس طويل ..
وللصين عدة منافذ لتطبيق هذه الدبلوماسية ابتداءً من جميعات الصداقة بين الشعوب، الى ورش العمل للأحزاب في البلدان الأُخرى مع الحزب الشيوعي الصيني هذه الورش لا تقتصر على الاحزاب الشيوعية بل كل الأحزاب في الدول التي فيها تعددية حزبية (التي ظهرت بعد أحداث الربيع العربي )، كما أنها تسهل لشركاتها أن تعمل في أي مناطق في العالم من خلال التوجه السياسي للحكومة الصينية وكذلك من خلال المرونة التي تتعامل بها البنوك الصينية للسماح بالاستثمار خارج الصين.
كما أنها تسهل خروج الأيدي العاملة مع هذه الشركات .
المرونة السياسية تولّد دبلوماسية ناعمة:
هناك مرونة غريبة في النظام الصيني في مجال السياسة الخارجية، ففضلا عن تعامله مع البلدان المتخاصمة كما بينت في الاسطر الماضية.
فكذلك لا ينظر الى نوع نظام الحكم في البلد الذي يقيم علاقةً معه، ولعل العراق مثالا حيًا، فهو تعامل من النظام البائد، وكانت العلاقات بين الطرفين ممتازة جداً، وبنفس الوقت وبعد التغيير لم يجد حرجًا في التعامل مع الحكومات العراقية وبحسب تعبير أحد المسؤولين في حوار لي معه أثناء زيارتي للصين، قال “نحن لنا علاقة تاريخية مع الشعب العراقي ” وهي مرونة وخروج من المسؤولية في العلاقة مع النظام البائد، و قبلت هذا التبرير بكل رحابة صدر، لأنه أراد الانتقال الى الواقع الجديد، وعدم الانغماس في الماضي ففي السياسة قد لاينفع “العتب” بل ينفع ما يمكن استحصاله في الحاضر والمستقبل.
الصين ليست ناعمة دائماً:
رغم هذه النظرة عن الصين إلا أنها تشذ في ذلك مع الولايات المتحدة وبريطانيا فقط لتواجد هذين البلدين في هونغ كونع وتايون والهند وبحر اليابان الى بقية المناطق التي تحد الصين، وتعتبر ذلك تهديدًا للأمن القومي الصيني، ومع هذا لا تقطع علاقاتها التجارية والدبلوماسية وتبادل الزيارات، فإن كانت سياستها ناعمة في الشرق الأوسط فإن سياستها في محيطها الإقليمي لا تكون ناعمة فقد يشوبها بعض الخشونة كما أن لحرير الصين نوعين خشن وناعم فان سياستها الناعمة قد تكون فيها بعض الخشونة او تخشن احيانًا بحسب الظروف الضاغطة .
وهي تستفيد من المناطق المشتركة لعبور التكنلوجيا الغربية لها بطريقة لا يمكن لا للولايات المتحدة ولا أوروبا الغربية السيطرة عليها، كما ان الشركات الكبرى التي اشترك فيها رؤوس أموال غربية وصينية تجعل الأمر أكثر صعوبة على الحكومات الغربية لوقف هذا الأمر.
و من السذاجة أنْ يعتمد بلد ما على أمر واحد، أو لون واحد في سياسته ونمط تعامله مع البلدان الأُخرى، و مهما كانت الدبلوماسية ناعمة فإنها تستند الى قوة عسكرية مخيفة سواءً كانت الصين أو الولايات المتحدة، وما علينا فقط أن نفتش عن تصريحات العسكرين أو نطلع على العقيدة العسكرية الصينية فسنجد أمرًا مخيفًا حقًا ولعلي أنقل نصًا واحدا من العقيدة العسكرية للصين تعطيني صورة واضحة عما يقف خلف الدبلوماسية الناعمة، فالصينيون يعتمدون مبدأ “الحرب الغير مقيدة ” ونجد الولايات المتحدة أكثر شفافية فتطلق مفهوم ” الحرب القذرة”، ويقول الخبراء عن الحرب الغير مقيدة بالنسبة للصين أن المخططين العسكرين طوروا هذه الستراتيجية ولم تكتف بالادوات العسكرية التقليدية بل جمعوا بينها وبين الادوات الالكترونية او السيبرانية، والارهابية بالوكالة (لم يُسجل حتى الآن دعمها لمنظمة إرهابية في العالم) واقتصادية ودعائية وأمامها ديبلوماسية ناعمة!!! وبالرغم من أنها موجهة ضد الولايات المتحدة لكنها مخيفة ومقلقة للعالم كله لأنها لا تعتمد على قاعدة ما، ويعبر بذلك أحد العسكريين الصينيين فقال:
“القاعدة الأولى للحرب غير المقيدة هي عدم وجود أي قيد” ولنعد الى الدبلوماسية الصينية الناعمة لنرى ان ما تطلقه الصين من شعارات وما يتمخض عن اجتماعات الحزب الشيوعي الصيني أمرًا مهما في هذا المجال
الشعارات الصينية : فما تطرحه الصين من شعارات في هذا المضمار تداعب مشاعر الشعوب والمجتمعات المقهورة، ولا تسعى لتفكيك هذه المجتمعات وتنصل الأفراد الناجحين منها على النقيض من المفاهيم الاجتماعية والسياسية التي تخاطب الولايات المتحدة الأفراد في هذه الشعوب التي تدعو إلى نمو النزعة الفردية والتخلي عن المسؤولية الاجتماعية .
والصين تطرح البديل عن الحضارة الغربية وإن لم تصرح إنها البديل لكنها تستند في ذلك الى عاملين أساسين هما التاريخ والحاضر، فيما لا نرى للولايات المتحدة أثرًا في الحديث عن التاريخ وتتجه الى تنمية الحداثة للابتعاد عن الجذور.
هناك دعوة للبقاء والاستمرار تمضي بها الصين، بينما نرى الدعوات الأمريكية تدعو الى نوع من الفوضى بالتمرد على الواقع وان كان بالقوة !!.
فالحضارة الصينية بالغة القدم وان لم يكن لها امتداد عالمي يذكر فهي اكتفت بمن حولها .
وتستند الى الحاضر في تقديم رؤية جديدة للعالم بعيدًا عن رؤية النظام العالمي الجديد الذي تديره الولايات المتحدة، فالصين تطرح “رؤيةً عالميةً تستهدف بناء عالم جديد يستند على العدالة والأخلاق والمساواة، والمنفعة المتبادلة. لذلك تحاول الصين توسيع نفوذها وزيادة أصدقائها وشركائها، ذلك لمواجهة الحضارة الغربية، لصالح حضارتها الصينية”1.
لا تكتفي الصين بهذا الطرح دون أن تكون لها قوة، فهذه المفاهيم بحاجة الى قوة دافعة من أهمها القوة الاقتصادية، كما أنَّ هذه القوة هي من عوامل الدبلوماسية الناعمة والى هذا يشير الدكتور عبدالله
“وللدبلوماسية الناعمة معايير مهمة لإنجاحها، تتمثَّّل في القوة الاقتصادية والقوة السياسية للدولة، والاستخدام الجيد للروابط العقائدية والثقافية، والتي، بالإضافة إلى ما وفرته ثورة المعلومات من وسائل تستخدمها الدبلوماسية الناعمة للتواصل مع الآخر لتوصيل الرسالة المرجوة منها. وليتحقق النجاح المرجو من الدبلوماسية الناعمة، يتوجه عادة عدد مختار من كل شريحة متخصصة، للجهة الملائمة لمجاله وتخصصه في الدولة المعنية، وبذلك يتمكن المشاركون في برامج ونشاط الدبلوماسية الناعمة عادة، من إيصال الرسالة للخارج، “2
المصادر:
1- علي الجرباوي، المعرفة، الأيديولوجيا، والحضارة. محاولة لفهم التاريخ. (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2021) ص330-
2-د ابراهيم بن عبدالله المطرف مقال في جريدة الجزيرة السعودية .