الاحدثفلسطين

الهدنة في غزة.. النصر والهزيمة كإمكان | بقلم شادي عمر الشربيني

وجه رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو يوم 18 يناير 2025 كلمة إلى الإسرائيليين، عشية تطبيق وقف إطلاق النار في غزة وإعلان الهدنة والبدء في تنفيذ اتفاق تسليم الرهائن مقابل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، وفي هذه الكلمة أثار مجددا المخاوف بأن المرحلة الأولى من الهدنة ستكون المرحلة الأخيرة، عندما وضع في كلمته عدة أسس منها القابلية للعودة إلى القتال في غزة. حيث قال نتانياهو نصا: “هو تكلم معي (ترامب) مساء الأربعاء. هو رحب بالاتفاق، وأكد على الفور أن المرحلة الأولى من الاتفاق هي وقف مؤقت لإطلاق النار. هذا هو ما قاله “إيقاف نار مؤقت“ “، وأكد نتنياهو أن كلا من ترامب وبايدن أعطوا دعماً كاملاً لحق إسرائيل للعودة إلى الحرب إذا استنتجت إسرائيل أن مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق غير مجدية.

   كلام نتنياهو يشير إلى أن الصفقة الحالية تتعلق بالمرحلة الأولى فقط، وأنه لن ينسحب من ممر فيلادلفيا، وهناك تعهدات من ترامب لمواصلة القتال بشكل أكبر. الوضع معقد، حيث تعتمد إسرائيل على عدم الوصول للمرحلة الثانية. وهنا يفرض السؤال المنطقي نفسه: هل كل ما تعتمد وتراهن إسرائيل عليه يحدث؟

  ربما يكون الانطلاق من كلام نتنياهو نفسه هو أفضل ضمانة لقراءة موضوعية للوضع. فبالنسبة للانسحاب من ممر فيلادلفيا، فليس مطروحاً في مسودات الاتفاق المنشورة انسحاب إسرائيلي كامل في المرحلة الأولى، بل فقط خفض تدريجي للقوات وفقا للخرائط المتفق عليها بين الجانبين في تلك المرحلة، وهنا يبدو أنه نتنياهو يزايد في لا مجال فيه للمزايدة، مستغلا عدم قراءة جمهوره الإسرائيلي لنصوص الاتفاق، ليحافظ على صورته كمقاتل عنيد شرس أمام هذا الجمهور.

   بن غفير استقال من حكومة نتنياهو احتجاجا على الاتفاق، أما رفيقه اليمني سموتريتش، فأحجم عن تلك الخطوة حيث قال ” حصلت على ضمان استمرار الحرب “، قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إنه سيسقط الحكومة إذا لم يعد الجيش للقتال بقطاع غزة بطريقة تسمح بالسيطرة الكاملة عليه وإدارته، وذلك بالتزامن مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ والبدء في إجراءات تبادل الأسرى. وأضاف سموتريتش “علينا احتلال قطاع غزة وفرض حكم عسكري مؤقت؛ لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لهزيمة (حركة المقاومة الإسلامية) حماس” (موقع قناة العربية 19/1/2025)

  كل هذه الإشارات والمؤشرات من حكومة نتنياهو تشير إلى نيات إسرائيلية واضحة للاكتفاء بالمرحلة الأولى لوقف الهدنة، ثم استئناف القتال والحرب ضد الغزة، لتحقيق الأهداف الإسرائيلية المعلنة لتلك الحرب التي تتمثل في النقاط الأساسية التالية:

  • تدمير حركة حماس تماما بحيث لا يمكن أن تحكم غزة من جديد.
  • لا تمثل غزة أي تهديد في المستقبل على إسرائيل.
  • إعادة المحتجزين والأسرى الإسرائيليين بالقوة، وليس في إطار أي صفقات تبادل مع حماس.
  • تهجير سكان غزة إلى خارجها وإعادة استيطان القطاع. (هدف غير معلن وإن كانت حتى الولايات المتحدة تعمل عليه على نحو صريح)

  تكفي قراءة تلك الأهداف الإسرائيلية لنفهم أن اتفاق الهدنة بمراحله الثلاث يمثل هزيمة كبيرة، أو على الأقل فشل ضخماً للكيان العبري.

  لقد وصف بن غفير الصفقة بأنها “مروعة”، وذلك في مقابلة مع القناة 12 مساء السبت 18/1/25 بعد إصدار حزب “أوتزما يهوديت” بيانه. وذكر أن نتنياهو، في محاولة لإقناعه بعدم الاستقالة، عرض إقالة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هيرتسي هاليفي، مع نسْب هذه الخطوة إلى بن غفير، في محاولة من نتنياهو لاسترضاء بن غفير إبقاءه في الحكومة، لكن الأخير رفض وأصر على الاستقالة. ولطالما انتقد بن غفير رئيس أركان الجيش، لأنه من وجهة نظره “لم يكن صارما بما فيه الكفاية مع حماس”.. كما قال بن غفير إن رئيس الوزراء عرض أيضا الوعود نفسها التي قيل إنه قدمها لسموتريتش بـ”زيادة بناء المستوطنات”. لكن مكتب نتنياهو قال في بيان ردا على هذه التصريحات: “لم  يُعرض على بن غفير أي شيء. إنها كذبة كاملة”. كما أصدر وزير الدفاع يسرائيل كاتس بيانا قال فيه إن “مهمة رئيس الأركان ليست مرتبطة بأي قضية سياسية، ولن تكون مرتبطة بها”. وقارن وزير الأمن القومي بن غفير بين استقالته الوشيكة، وحقيقة أن آخرين، مثل سموتريتش، الذين هددوا بالاستقالة لم يفعلوا ذلك، قائلا: “أنا رجل مبدأ”. واعتبر الوزير أن الاتفاق مع حماس “يمهد الطريق لعمليات الاختطاف التالية”، حسب تعبيره.

  إن وضعنا تفجر الخلافات داخل حكومة نتنياهو مع الفشل الإسرائيلي المتكامل لتحقيق أهدافها من حربها الابادية شاملة ضد القطاع، فذلك يكشف عن مدى المأزق الإسرائيلي، وأنها فيما يبدوا ذاهبة إلى حال احتراب داخلي فجره هذا الفشل، ولا يبدو أن هناك مخرجاً منه سوى استئناف إسرائيل لحربها ضد غزة.

  لقد خضعت إسرائيل لصفقة مع حماس، حيث ستستلم منها في مرحلتها الأولى 33 محتجزاً إسرائيلياً، مما يمثل ما يقارب نصف الإسرائيليين لدى حماس، وذلك لتخفيف الضغوط في الداخل الإسرائيلي بشأن المحتجزين. ماذا أعطت إسرائيل في الاتفاق؟ أعطت إسرائيل العودة، عودة النازحين من الجنوب إلى الوسط والشمال، وهذا منصوص عليه في المرحلة الأولى، ويبدأ في اليوم السابع، وبالفعل، فإنه في اليوم السابع للمرحلة الأولى بدأ الفلسطينيون في التدفق عبر محور رشيد وكذلك صلاح الدين، حيث لن يُفَتَّش المشاة، ولكن السيارات ستُفَتَّش عبر آلية مصرية/قطرية. فرجوع الغزاويين إلى أمكناهم إنجاز خطير وجوهري ومهم جدا، لأنه يضرب خطة الجنرالات التي كانت تهدف إلى تهجير سكان القطاع غزة في مقتل.

  في السيناريو الإسرائيلي الذي يقوم على العودة إلى الحرب بعد انتهاء المرحلة الأولى، ما هو أول أمر يمكن أن تفعله إسرائيل؟ لا بد أن تستعيد المنطقة التي انسحب منها والأجزاء التي انسحبت فيها من محور نتساريم، والتي يمكن أن تصبح ملغمة، ذلك لأن في هذه الفترة ستكون حماس قد انتشرت في تلك المناطق. لقد أعلنت حركة حماس أن شرطتها بدأت في الانتشار في قطاع غزة لتقوم بمهامها في حفظ الأمن والاستقرار وتكافح العصابات، المدعومة إسرائيليا، التي تسرق الغذاء وتقوم بعمليات نهب المساعدات الإنسانية التي تصل إلى غزة.

  لقد رأى الجميع مع بدأ السريان الهدنة وعملية تبادل الأسرى كيف ظهرت حماس بقوة وانتشرت قواتها في قطاع غزة كما لو أن الحركة لم يصبها نزيف أو إرهاق من 15 شهرا من حملات القصف والتدمير والملاحقة المستمرة المدعومة ليس فقط بعمل مكثف من الاستخبارات الإسرائيلية العتيدة، ولكن معها كان أجهزة الاستخبارات الأمريكية الجبارة والبريطانية والفرنسية، بل والكثير من قوى الاستخبارات الغربية والعربية أيضا. إن هذا المشهد الحمساوي هو إعلان صريح عن سقوط أهداف حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة وسط دعم أمريكي غربي غير مسبوق، والبعض يقدر أنه يكاد يستحيل تكرار مثل هذا الدعم العسكري والاستخباري والسياسي والاقتصادي لإسرائيل، وذلك لتدمير المقاومة داخل قطاع غزة الذي لا تتجاوز مساحته 360 كم2 والمحاصر من الجهات كلها.

  مع انتشار جنود حماس والداخلية، وعودة سكان غزة إلى الشمال وإلى الوسط، فإن هذا يترافق مع تدفق للمساعدات التي تكسر الحصار الإسرائيلي المجرم على سكان القطاع؛ مما يوقف التدمير، ويسمح بالتقاط ا الأنفاس وترميم الأوضاع. هذا كله يتيح للمقاومة فترة وفقاً لدراسة الموقف وإعادة نشر وتموضع قواتها في القطاع. مما يعني أنه في حالة عدم التزام إسرائيل بإتمام مراحل الهدنة والعودة إلى حربها على القطاع، فإنها ستواجه بمشهد لا يقل صعوبة وتعقيدا عما كان عندما افتتحت حربها في أكتوبر 2023! أي الغرق في مستنقع غزة والتحام مباشر مع المقاومة التي تمارس عمليات القنص وكمائن التدمير على أرضها التي تحفظها وأعدتها بشبكات الأنفاق واللوجستيات لاستنزاف عدوها.

   ثم اليمن…

   اليمن وما أدراك ما اليمن…

فإذا كان استئناف جبهة إسناد حزب الله من لبنان يبدوا متعذرا هذا الوقت لأسباب معروفة، فإن جبهة اليمن المفتوحة على إسرائيل، حيث لم يكتف فيها اليمن أنصار الله بفرض حصار بحري على إسرائيل من خلال إغلاق مضيق باب المندب أمام السفن والملاحة الإسرائيلية أو المتوجهة لإسرائيل، بل وراح اليمن يمطر إسرائيل بصواريخه ومسيراته التي أصبحت تدفع بملايين الإسرائيليين بشكل شبه يومي إلى الملاجئ وخاصة في منتصف الليل؛ مما حول حتى العاصمة تل أبيب إلى مكان لا يطاق العيش فيه وعرى القبة الحديدية الإسرائيلية. هناك يأس  وإحباط واسع في إسرائيل بشأن اليمن، فبجانب ست غارات شنتها القوات الجوية الإسرائيلية على اليمن، وكانت كلفتها باهظة، فإن الأمريكيين والبريطانيين لم يكفوا عن ضرب اليمن وقصفه، ومع كل ذلك فإن يمن المقاومة يزداد صلابة وقوة، بل ويستمر في تصعيده وتطوير ضرباته وتكثيفها. لذلك يبدوا يوما بعد يوم أمام الإسرائيليين أنه لا سبيل مجدي لتهدئة جبهة اليمن المفتوحة سوى الاستمرار في وقف إطلاق النار في غزة والتراجع عن الحرب عليها.

  بالتأكيد نحن أمام لحظة تاريخية بالمقاييس كلها، لحظة انتصار الدم على السيف.

   النجاح في الحروب لا يقاس بمقدار ما استطاع أن يلحق طرف بخصمه من خسائر ودمار، بل يكون بكسر إرادة الخصم وتحقيق الأهداف التي شنت تلك الحرب من أجلها … في نهاية الأمر الحرب أهداف، من يحققها هو المنتصر، أو على الأقل الطرف الناجح الذي حقق ما يريد من المعركة أو الحرب، فكما ذكر كلاوزفيتز أن الحرب هي السياسة… لكن بوسائل أخرى.

  لذلك فإن حجم كل هذا الدمار والخراب الذي ألحقه العدو الإسرائيلي بغزة، وعشرات الألوف من الشهداء الذين استهدفهم قصفه الوحشي وتوغله العسكري، هو أولا قابل للاستيعاب والتجاوز بفضل طاقات الشعب الفلسطيني الهائلة وإرادته في الصمود والحياة التي زلزلت العالم وحركته من أقصاه إلى أقصاه، بالإضافة إلى الحاضنة العربية الواسعة لهذا الشعب البطل، وأخيرا يصبح هذا التدمير والدمار قبض الرياح ما دام لم يحقق العدوان الإسرائيلي أهدافه الرئيسية من القضاء على المقاومة في غزة، الذي هو مرهون بتهجير أهل القطاع وإلقائهم خارجه. القطاع ما زال عامر بأهله وناسه، اتفاقات وقف إطلاق النار والهدنة بمراحلها تمثل عودة الأهالي إلى المناطق التي احتلها العدو وجلاء هذا العدو من الأرض.

  من الذي انتصر إذا؟ أو على الأقل من الذي حقق النجاح، وأكد نفسه وفرض منطقه؟!

  النتيجة أن إسرائيل لم تُجبر فقط على التخلي عن أهدافها، وأجبرت على التساكن مع مقاومة متمرسة وعنيدة تزداد خبرة وقوة ورصيدا مع مرور الوقت، بل وخسرت إسرائيل صورتها التي سعت وتسعى دائما لبنائها على أنها الدولة الديمقراطية الحقوقية الوحيدة في المنطقة، وأن جيشها هو أكثر جيش أخلاقي في التاريخ! لم يتبق سوى وجه إسرائيل العاري المكشوف الذي خرجت عليه الجماهير في أٌقوى وأعتى مناطق تأييد إسرائيل في العالم الغربي (الولايات المتحدة، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، هولندا… إلخ)، وأصبح كل إسرائيلي يسعى إلى إخفاء جنسيته وهويته في أي مكان بالعالم، واتسع تيار التبرؤ اليهودي من إسرائيل إلى درجات غير مسبوقة، ويستمر في التوسع وتأكيد نفسه.

  أضف إلى ذلك خروج إسرائيل من الحرب بجيش مستنزف مكشوف مفضوح، ومجتمع مرهق مذعور. إن خسائر الجيش الإسرائيلي ليست متمثلة في قتلاه أو معدات مدمرة أو عشرات الآلاف الأطنان من ذخائر مهدرة فقط، بل في يأسه من تحقيق أي هدف بالقوة، وفضح محدوديته وتجريده من الأساطير التي سعى دائما أن يرسمها لنفسه، ويرهب بها الأمة العربية ويخضعها. كل هذا انكسر بعجزه الفاضح ليس في غزة فقط، بل وفي جنوب لبنان، حيث لم تسطع قواته البرية تحقيق أي اختراق يذكر بالرغم من مجازر البيجر واللاسلكي والوصول إلى القيادات الكبرى في حزب الله واستشهاد قائده الأيقونة حسن نصر الله الذي مثل روح الحزب والمقاومة كلها، بالرغم من قصف مرعب مستمر على الضاحية الجنوبية، كل هذا فشل، وأنهار أمام صلابة المقاتلين وصمود الشعب وخاصة الجنوب العظيم.*

  ثم المجتمع الإسرائيلي، ذلك المجتمع الذي لم يمنح تأييده لأي من حروب إسرائيل بمقدار ما منح وأعطى لحكومة نتنياهو في الحرب الأخيرة. فإذا به يجد نفسه لأول مرة منذ نشأته تحت قصف مستمر غير مسبوق في شدته واتساعه ودوي صفارات الإنذار لا ينقطع. حالة من الزعر والخوف والرجفة عاشتها جغرافيا الاحتلال أطاحت بطمأنينته وسلامه الداخلي، فمشروع إسرائيل قائم بالأساس على أنه لا أمان لليهودي في أي مكان في العالم سوى داخل مظلة الاحتلال في فلسطين (المسماة صهيونيا أرتس إسرائيل (أرض إسرائيل)) لكن في حرب الأخيرة انقلبت الآية، وتزلزل ركنه الأساسي، حيث أصبح اليهودي آمناً في أي مكان في العالم إلا في إسرائيل! فُتحت جبهات الإسناد، ووصلت صواريخ حزب الله وطائراته المسيرة ليس فقط إلى أعماق المستوطنات ومدن الاحتلال، بل وإلى غرفة نوم رئيس وزراء الكيان نتنياهو وقاعة طعام قوات النخبة داخل القواعد العسكرية المحصنة وأثناء تجمع وجبة العشاء. ثم إن هذا المجتمع، أو الأصح التجمع الهزيل العبثي، وجد القباب الحديدية عاجزة عن صد صواريخ ومسيرات تلقى عليه من على بعد آلاف الكيلومترات حيث اليمن العظيم، الذي لم يكتف بحصار البحري الناجح والمؤلم للاقتصاد الإسرائيلي، بل وحرم الإسرائيليين النوم بصواريخه وصيحات جماهيره الأبية!

  إن الاستمرار في تعداد مظاهر الفشل الإسرائيلي واستعراض مظاهر الإصابات العميقة والانهيارات المتعددة التي أصابت بنية إسرائيل السياسية والعسكرية وجبهتها الداخلية، يمكن أن يمتد ليملأ صفحات طوال بل ربما يحتاج إلى كتاب كامل، لكن اكتفينا هنا بعلامات وإشارات واضحة في دلالاتها. ولعل السعي الإسرائيلي المحموم للعودة إلى الحرب، ونقض اتفاقيات وقف إطلاق النار والهدنة، هو في حد ذاته قاطع في دلالته عن طبيعة النظرة الإسرائيلية لما آلت إليه هذه الجولة من المواجهة.

  لكن يبقى أننا يجب ألا نقع في فخ أن النصر، أو على الأقل النجاح، مجرد لحظة يحدث فيها، ثم ينتهي الأمر، فيصبح غير قابل للتعديل أو النقض. الانتصارات والنجاحات هي سيرورات ومسيرات، وليست أعمال تنجز مرة واحدة، فتْثبت وتكون نهائية. إسرائيل والولايات المتحدة وجميع القوى في هذا المعسكر، تعمل وستعمل بكل ما عندها من قوى مادية وأساليب واستراتيجيات سياسية وإعلامية واقتصادية وثقافية، لكي تدور حول هذا النجاح والنصر للمقاومة، وتحاصره وتفرغه من معانيه ومضامينه. فتداعيته من حيث انكشاف إسرائيل وبيان عدمية قوتها وسقوطها، ومن حيث تعرية الولايات المتحدة، وتهاوي خطاباها وبيان أيضا عقم القوة الأمريكية سواء في غزة ومعها وربما قبلها الفشل الأمريكي الغربي المريع في وقف دعم اليمن (المحاصر والفقير) لفلسطين وفشلهم التام في كسر إغلاقه لمضيق باب المندب أمام سفن وملاحة العدوان، أمور خطيرة ولها وتداعيات وآثار مذهلة سيسعون بكل السبل لتجاوزها وتصفيتها وإنزال أشد العقاب بأبطال المقاومة، لأن هذا هو الخطر الأحمر عند التحالف الصهيوني/الأمريكي/الغربي وحربهم الدائمة كانت على معنويات الشعب العربي وبث يأس دائم مذل لا ينقطع داخل نفسه، فإيمان هذا الشعب بنفسه وبقدراته وبعمقه الحضاري والثقافي وقواه المادية والمعنوية قابل دائما أن يحدث انقلاب تاريخي، ويفجر ويطلق حركة تحرر قومي بأبعاد وآفاق فوق أي تصور وحسبان.

  المهمة الأولى الآن هي حماية النصر وضمان بقاء النجاح وديمومته ودفعه إلى مداه العظيم الذي يليق بالتضحيات الهائلة التي قُدمت، باعتراض ووقف وتصفية أي عمل سياسي/دبلوماسي يسعى لتحقيق تهجير الفلسطينيين من غزة بعد أن فشلت قوة العنف والسلاح الغشوم في ذلك، ثم الشروع الفوري في عملية الإعمار التي تسعى إسرائيل إلى وقفها وشلها، حتى يظل القطاع منطقة غير قابلة للعيش بعد الدمار الواسع الذي ألحقته به، وتأتي مسألة التطبيع السعودي مع إسرائيل كبند أخيراً في تلك المهمة، فهذا التطبيع يجب مقاومته، ولا يجب تقديمه كمكافئة لإسرائيل لوقف حربها على غزة فهي حرب هزمت إسرائيل فيها وانكسرت. وتأتي المهمة الثانية في إطار الالتفات إلى الثغرات والمشاكل والاختراقات التي كشفتها نار المعركة، وهذه أمور من طبائع الأحوال والمواجهات ولا حاجة إلى أدنى فزع أو خوف منها، والتحقيق للكشف عن أسبابها ومنابعها في سبيل العمل على سدها ومعالجاتها ومنع استغلالها في المستقبل. ولا يفوتنا أيضا مسألة أشد الظواهر إزعاجا حدثت في المعركة، وهي هذا الضعف والهزال الشديد لحركة الجماهير العربية في دعم ومناصرة غزة ودعم المقاومة الباسلة الممتدة في لبنان وجغرافيا الشام واليمن والعراق، هذا أمر يحتاج إلى التفات ودراسة وفحص عميق، لأن الحضور الجماهيري العربي هو الفيصل والعامل الأول في معادلة النصر، بدونه، فإن أي نصر ونجاح لن يكون مفصليا وقابلاً للتطوير والبناء عليه نحو الأفق الأوسع لتحقيق الانتصار الشامل والأهداف والآمال الكبرى. إن العمل السياسي والتوعوي والتثقيفي واستعادة مركزية قضايا التحرر ومواجهة.

الصهيونية والإمبريالية والنهب والاستغلال، له أولوية كبيرة، بل وعظيمة في المرحلة القادمة.

ملحوظات:

* لم تحقق إسرائيل نجاح ما سوى على الجبهة السورية، مستغلة انهيار الدولة واحتلال مليشيا مسلحة قاعدية للقمة في دمشق، وهو نجاح مؤقت مرهون بتملك سوريا لنفسها و/أو فتح مجال للمقاومة في الجنوب السوري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى