
التسريبات التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية حول منع ترامب توجيه ضربات عسكرية شاملة تستمر على مدار اسبوع للمنشآت النووية والأصول العسكرية الإيرانية، والتي كانت إسرائيل تخطط لتنفيذها في ايار/مايو المقبل، تحمل في طياتها العديد من الرسائل. يبدو أن ترامب ووكيله نتنياهو كانا حريصين على إيصالها للأصدقاء والمنافسين الداخليين قبل الأعداء الخارجيين، مما يشير إلى أنها تخفي نوايا وأهداف تتجاوز ما يظهر على السطح.
في واشنطن، أثار إعلان ترامب خلال لقاءه نتنياهو في زيارته الاخيرة للبيت الابيض، بدء إجراء مفاوضات ثنائية مع ايران بواسطة دولة ثالثة – سلطنة عُمان، يوم 12 ابريل/نيسان، إنقساماً حاداً في المواقف بين أعضاء إدارته ومستشاريه. من جهة، يؤكد الفريق الأول على أهمية استنفاد جميع الخيارات الدبلوماسية مع إيران وتفادي أي مواجهة عسكرية قد تضر بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. في مقدمة هذا الفريق يأتي نائب الرئيس جي دي فانس، ومبعوث ترامب الخاص للشرق الأوسط، ويتكوف، ووزير دفاعه بيت هيجسيت. من جهة أخرى، يدعو الصقور المتشددون إلى ضرورة اتخاذ إجراءات عسكرية لتدمير المنشآت النووية الإيرانية قبل أن تصل إلى مرحلة اللاعودة في إنتاج السلاح النووي. يقود هذا التيار مايك روبيو، وزير خارجية ترامب، ومستشاره للأمن القومي مايك والتز، وكلاهما يتبنى مواقف اليمين المتطرف في إسرائيل، وعلى رأسهم نتنياهو.
بإستثناء إثارة الازمات الداخلية والخارجية، ونشر حالة من عدم اليقين في الاسواق العالمية، وإستئناف حرب الابادة الجماعية يوم 18 اذار/ مارس على قطاع غزة والشعب الفلسطيني عموماً، الى جانب إطلاق سيل هادر من الانتقادات للسياسات الاقتصادية غير العادلة وفقاً لتعبيراته لعشرات من دول العالم تجاه بلاده، لم يحقق ترامب أية إنجازات ملموسة منذ دخوله البيت الابيض 20 كانون الثاني/ يناير. وهو يسابق الزمن قبل إنقضاء المئة يوم الاولى على تنصيبه، علّه يقدم إنجازاً حقيقياً يستطيع ان يتفاخر به امام جمهور ناخبيه. عند هذه النقطة، يبدو ان الرئيس ترامب قرر منح العمل الدبلوماسي عبر المفاوضات فرصة أكبر على حساب الحرب لمعالجة برنامج طهران النووي والصاروخي.
وسط أجواء الخلافات الناشئة بين اعضاء إدارته، حاول ترامب سد الفجوة القائمة لاسترضاء الطرفين. من ناحية، اوعز لرئيس فريقه ويتكوف استكمال جلسات المفاوضات مع الجانب الايراني في روما وفق جدول الاعمال الامريكي، مع تحديد سقف زمني للتوقيع على الاتفاق الجديد. من ناحية اخرى، واصل ترامب قرع طبول الحرب، وحشد القدرات العسكرية الامريكية بما فيها حاملات الطائرات وقاذفات القنابل الشبحية، ونشرها في القواعد العسكرية الامريكية في منطقة الشرق الاوسط، مع جسر جوي لا يتوقف من المعدات العسكرية والقنابل الخارقة للتحصينات، بالتزامن مع نقل منظومة دفاع جوي “ثاد” ومنظومتي “باتريوت” الى إسرائيل.
في الواقع، يهدف ترامب من هذه السياسة – المسار الدبلوماسي بالتوازي مع ابقاء الخيار العسكري قائم. من بين امور اخرى، الى ارسال رسائل للديموقراطيين والجمهور الامريكي عموماً، مفادها، (1). انه قادر على استحداث صيغة جديدة تحرم ايران من امتلاك قدرات نووية أو قدرات صاروخية بعيدة المدى، افضل من تلك الصيغة التي توصل لها اوباما ومزقها ترامب عام 2018، (2). استرضاء لوبيات الضغط وجماعات المصالح المؤيدة لاسرائيل في واشنطن والتي تفضل عمل عسكري سريع ينهي القدرات الايرانية بدلاً من مسار مفاوضات طويل، (3). ارسال رسالة لقادة طهران جوهرها انه متمسك بالخيار الدبلوماسي، لكن هذا الخيار ليس مفتوحاً، وأنه -ترامب، يتعرض لضغط كبير داخلي وخارجي لوجوب إستخدام القدرات التدميرية للولايات المتحدة و/او منح اسرائيل الضوء الاخضر لتنفيذ المهامة، وبالتالي يرفع مستوى الضغط على المفاوض الايراني لدفعه للموافقة على شروطه وإنجاز صفقة سريعة.
بالمقابل، تخدم تسريبات صحيفة نيويورك تايمز، مصالح نتنياهو وتحالفه اليميني المتطرف في، (1). إظهار مدى جديته وعزمه على استخدام القوة العسكرية الاسرائيلية لمنع ايران من حيازة الاسلحة النووية والقدرات الصاروخية، لكنه مُلتزم بتعليمات ترامب منعاً من خلق أزمة مع الحليف الاقرب لاسرائيل، (2). هذا التسريب أخرس المعارضة الاسرائيلية ووضعها في موقف لا يسعفها كثيراً في بازار المزايدات السياسية على نتنياهو، سواء لجهة تحريض الداخل الاسرائيلي الذي يؤمن بأهمية وضرورة الحفاظ على العلاقة مع واشنطن كراعي رسمي لاسرائيل، أو لجهة المزايدة على مواقف ترامب الذي أعلن عن نيته تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة وتحويلها الى “ريفييرا الشرق الاوسط تحت وصايته”، وما زال يتماهى مع ممارسات اسرائيل العدوانية على لبنان وسوريا، ويواصل إمدادها بكل أنواع الاسلحة الفتاكة ويمنحها الغطاء على الساحة الدولية للاستمرار في حرب الابادة الجماعية القائمة على شعبنا في قطاع غزة وعموم اراضي فلسطين.
أصبحت ظاهرة تسريب المعلومات والخطط العسكرية من مكتب نتنياهو شائعة بشكل متزايد. فالتسريبات الأخيرة المتعلقة بقضية “قطر غيت” لا تزال قيد التحقيق، والآن تأتي تسريبات صحيفة نيويورك تايمز، مما يوحي بأن نتنياهو يتقن هذه اللعبة لخدمة مصالحه الشخصية. يأتي ذلك في ظل التأييد الواسع داخل إسرائيل لتوجيه ضربة لمفاعلات إيران النووية، رغم المخاطر الكبيرة التي قد تواجه كبار موظفيه ومستشاريه المتهمين بالتسريب.
بينما يلوح ترامب بعدم اسقاط الخيار العسكري للتعامل مع الملف النووي الايراني في حال فشلت المفاوضات، يضبط نتنياهو عقارب ساعته مع ترامب، ويُظهر لخصومه انه وإمتثالاً لرغبة ترامب اوقف هجومه على ايران. على هذا النحو، يستمر في اللعب بكل الاوراق الرابحة ونجح في توجيه أنظار النخب السياسية واقطاب المعارضة في اسرائيل نحو التباينات القائمة في المواقف الامريكية حيال معالجة ملف ايران نووي، وإغرقهم في مزيد من النقاشات الداخلية.
في المقابل، يستفيد نتنياهو من إظهار الاذعان لقرار ترامب ويدفع بقواته العسكرية لارتكاب مزيداً من المذابح اليومية بحق ابناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بضمان عدم الاعتراض الامريكي. هذا الموقف شجع المتطرف سموترتيش على إطلاق تصريحاته التي هدد فيها بفتح “ابواب الجحيم”، مكرراً موقفه السابق بان “اسرائيل لن تنهي حربها حتى تحقيق الانتصار الكامل وإنجاز كافة اهدافها، بما فيها تنفيذ خطة ترامب التهجيرية”، وسط تساقط نار القذائف التي يحصل عليها نتنياهو بشكل سلس بعد ان اظهر التزاماً كبيراً بقرار ترامب.