سلامُ المُحارِبين وهَزيمَةُ الدولة: مَن رَفَضَ الحَربَ لم يَعُد بَعدَ رَحِيلِها | بقلم د. بيار الخوري

مع اندلاعِ الحربِ الأهليّة اللبنانية في 13 نيسان (أبريل) 1975 (منذُ 50 عامًا)، تَمركَزَت القوى السياسية والطائفية إمّا في خنادق الميليشيات، أو اختارت الحيادَ المبدئي. وفي تطوّرٍ لافت في التاريخ اللبناني، أصبحت الجماعات السياسية التي اختارت عدم القتال خلال الحرب الأهلية هي الخاسر الأكبر بعد عودة السلام إلى البلاد.
اختارَت غالبيةُ القوى التقليدية من الأطرافِ والمُدُن، التي حَكَمَت قبل بداية الحرب، عدمَ تحويل خلافاتها إلى صراعٍ عسكري. وبدلًا من تشكيلِ ميليشيات أو استغلال المخاوف الطائفية، عانت من الشلل بعد عجزها عن تعزيزِ مبادئ سلطة الدولة والاعتدال. وخرجت من المشهد عند لحظةِ الاستسلامِ لمنطقِ الحرب.
لم تنتهِ الحرب حقًّا. توقّفَ إطلاقُ النار، لكن قوّة الميليشيات أسّست الشرعية السياسية الجديدة. وعلى طاولةِ مفاوضات ما بَعدَ الحرب، تقاسَمَ المقاتلون مصالحَ الدولة بالطريقة نفسها التي سيطروا بها على انقساماتِ الشوارع. حصل الزعيم على منصب، وفاز المتقاتلون بمكافآت، لأنه لم تكن هناك محاسبةٌ ضمنَ منطقٍ أوسع للعدالة الانتقالية.
وهنا لا بُدَّ من طَرحِ السؤال المُلِحّ التالي: هل قَدّمَ الجمهورُ الطائفي مكافآت لهؤلاء المقاتلين لمجرّدِ دفاعهم عن مجتمعاتهم؟ أم أنَّ نظامَ ما بَعدَ الحربِ فَرَضَهُم كأمرٍ واقعٍ لا مفرَّ منه؟
الجواب ذو شقّين. لقد وَلَّدَت الحربُ خوفًا وجوديًا داخل المجتمعات الطائفية، طالبت فيه بـ”قادةٍ حُماة” على حسابِ شركاءٍ في الوطن. ودَعَمَ نظامُ ما بعد الحرب هذا التوجّه من خلالِ أنظمةٍ انتخابية ومُحاصصات رَسّخت استراتيجياتَ زمنِ الحرب كإطارٍ حصري للحُكم.
شَكّلَت الحربُ مواجهةً مُسَلّحة وانقلابًا قسريًا في آنٍ واحد عطّلا العادات السياسية والاجتماعية لمعظم المجتمعات الطائفية. تمّ تهميشُ القادة الذين امتلكوا شرعيةً تاريخية أو اجتماعية، وحلّ محلّهم أولئك الذين صعدوا من الميليشيات والسلاح. لكنَّ السؤالَ الأعمق هو: هل حقّقَ هذا الانقلابُ هدفه في استبدالِ التقليدِ بمسارٍ تاريخي أكثر تقدّمًا؟ هل استبدلنا الشرعية التاريخية بالقوّة العنيفة، وبادلنا القادة ذوي الحكمة بمَن يعملون من خلال الصفقات والمُحاصصة؟
أُزيحَ بُناةُ الدولة الرؤيويون من السلطة، بينما تولّى أولئك القادرون على تطويعِ الدولة أدوارهم. بعد انتهاءِ الصراع، سيطر أمراء الحرب على مقاليد السلام، مُخِلّين بالرسالة العميقة لوجود لبنان، ومُؤمِّنين شرعية حصرية، ومُقصِين مَن هم خارج المجموعة المُنتَصرة.
أخلّ السلاحُ الفلسطيني بالتوازُن القائم بين الطوائف، مُجيزًا بذلك تسلّح كلا الجانبين. ورُغمَ هزيمة السلاح الفلسطيني، فإنَّ نتائجه لم تذهب معه.
انتهت الحرب بإعلانِ جميع الأطراف النصر، وإن كان في أزمنةٍ مختلفة. لقد كانت حربًا انتهت بهزيمةٍ مُزدوجة: هُزِمَت الدولة لفشلها في حماية نفسها، وانهارَ البناءُ الموعود لأنه خدم المتقاتلين بدلًا من تجاوزهم، مُرَسِّخًا بذلك نظامَ توازُن قوى مُناقضًا لمنطق الدولة.
السؤال الذي ظلّ من دونِ إجابة منذ العام 1990وتوقيع إتفاق الطائف الذي أوقف “إطلاق النار” هو: هل ينبغي أن يتبع نهجُنا في بناءِ الأمّة المبادئَ التي أرستها القوى المُنتَصِرة؟ أم ينبغي أن نعودَ إلى تثمينِ مَن رفضوا تحقيقَ النصر بكسرِ مَنطِقِ الدولة؟