صلاةٌ على جذْع زيتونةٍ في الجنوب | بقلم هنري زغيب
عند جذْعكِ المبارَك أَنحني وأَركع، فاقتَبلي صلاتي..
يا الباقيةُ وحدَكِ في الـهُنا، ومَن كان حولَكِ بات في الـهُناك، في البعيد هناك، في التَشَرُّد هناك..
كأَنكِ منذورةٌ أَن تكوني شاهدةً على صَلْب الجنوب عند جلجلة هذا العصر.. كأَنكِ حفيدةٌ من بستان الزيتون تشهدُ تكرار الجريمة: تسليمُ يهوذا بقبلةٍ يسوعَ وهو يصلِّي على جبل الزيتون مقاومًا قوى الشر (لوقا: الإِصحاح 22، الآيتان 39 و47)..
وحيدةً تركوكِ، وأَنتِ على خطواتٍ من “مدينة الصلاة” التي استباحها الطارئون فصرخَ عليها يسوع: “أُورشليم… أُورشليم… يا قاتلة الأَنبياء” (متى: الإِصحاح 22، الآية 37).. وها أَنتِ ترزحين وحدَكِ في هذا الجنوب الوجيع، لا تئنِّينَ من جراحٍ لأَن فيكِ نُورًا إِلهيًّا ليس يخبو، كأَنكِ “كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شجَرة مُباركة زَيْتُونة” (سورة النُور، الآية 35)..
بهذا النور البهيِّ تَصمُدين في جنوب لبنان عن كل لبنان.. تُواجهين وحشًا تيوقراطيًّا يصارع إِيديولوجيا لا تخافُ الموت لأَن موتها ارتقاء.. وها أَنتِ بين التيوقراطيا والإِيديولوجيا تتلفَّتين حولك في صمْت المريمات، تُعاينين مذهولةً هذا الخرابَ الأَپوكاليپتيّ الرهيب بين نارَين: إِحداهما يؤَجِّجها بيلاطس كي يُسلِّم الأَرض وأَنتِ لا تعترفين به، والأُخرى يُوقدها مَن لا يعترف بكِ ويجسِّد اليوم في الجنوب نبوءَة القائل: “… وَيَهْدِمُونَك وَبَنِيك فِيك، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيك حَجَرًا عَلَى حَجَر” (لوقا: الإِصحاح 19 الآية 44)..
يا زيتونةَ الجنوب، يا بَرَكَةَ لبنان، كيف نَنتظر بعدُ مواسِمَ البَرَكة، وأَنتِ في قلب الأَرض المحروقة؟ كيف نتهيَّأُ لأَغمار الحصاد، والفوسفورُ أَحرقَ الجذوع والجذور؟ كيف ندقُّ الأَبواب كي نصافحَ الأَحبَّة، ولم تَعُد بيوتٌ ولم يَعُد أَحبَّة؟ أَيَّ قُرًى نزور، وقُرًى باتَت رُجمةً من حجارة تبكي على زمن الجدران؟ أَيُّ قَفْرٍ أَنتِ فيه، وكان الجنوبُ واجهةً قُدسيَّةً في الاحتراب من أَجل فلسطين؟
طويلًا طويلًا سأَلْنا ونبَّهْنا وحذَّرنا فلم يكن سميع.. وفي ساعة الصفْر سقَط الوهم الكبير وانبرَت للإِنقاذ دولةٌ انتهَت أَن تكون هي ذاتُها تستجدي الإِنقاذ ولا طاقة لها على نجدة شعبها حين ضربَهُ الذُل بين ضحايا وشهداء…
ما أَمَرَّ أَن يستيقظَ شعبٌ فيكونَ صباحُه نُزوحًا من أَرضه إِلى أَرضه، ولُـجُوءُه استشهادًا ولا سعيَ له إِلى استشهاد.. ما أَصعبَ أَن يعود غدًا إِلى بيته فلا يعرف أَين كان البيت.. ما أَوجعَ أَن يُمسي المكانُ ذكرى ولا ذنبَ لِمَن تَهَجَّر من هناءَة المكان.. ماذا ينفعُ التفَجُّع حين الحاضرُ يَخسر الماضي ولا يَربح المستقبل؟ أَيُّ ذنبٍ لطفلةٍ تسأَل عن أَبيها، وامرأَةٍ تَهَشَّم زوجها تحت الردم، وعجوزٍ لم يعُد لها مُعين؟ ما أَرهبَها ساعةً يجدُ فيها المواطن أَنه ينتمي إِلى بلدٍ بلا سقْف ولا حماية ولا دولة لم يَشعر بها منذ عقود..
نبيلةٌ بادرةُ مَن فتَح بابه لإِيواء.. رائعةٌ بادرةُ مَن هرعَ لنَجدة.. مواطَنَةٌ ميدانيةٌ تُحتذى بادرةُ مَن ضحَّى وساعدَ وساهمَ واندفَع معوِّضًا هذا الإِفلاسَ السياسيَّ الفاجع.. فريدٌ هذا التضامنُ اللبناني الذي، أَفرادًا وجماعاتٍ ومستشفياتٍ ومستوصفاتٍ ومساعداتٍ، يلتفُّ عفويًّا حول أَهلٍ مشرَّدين منكوبين ولا سؤَالَ عن منطقة أَو طائفة أَو مذهب أَو دين، ما سوى أَنهم من أَهل لبنان، من أَهل الجنوب، أَطفالٌ وشيوخٌ وعُجَّزٌ، ورجالٌ يَضُمُّون كرامةَ أُسرتهم بخوفٍ وقلَقٍ ورُعبٍ من مصيرٍ رهيبٍ أَسود..
أَيُّ إِيديولوجيا تستحقُّ هذا الدم المسفُوح المسفُوك المسلُوب القرار؟ أَيُّ موتٍ مجَّاني يقْذفُه تنِّينٌ نيرانُهُ تحصدُ أَرواحًا لا ارتكابَ لأَجسادها سوى أَنها فلذاتُ شعبٍ مكشوفٍ على غارات الموت؟ أَيُّ قَدَرٍ أَن يموتَ شعبٌ فداءً عن موتِ شعبٍ آخَر؟
يا زيتونةَ الجنوب: عند جذْعكِ المبارَك أَركَعُ وأُصلّي.. وفي صلاتي إِيمانٌ بلبنانَ اللبناني، هذا الإِيمانُ الْـوَحدَهُ يُنقذُ لبنان أَنْ يعتنقَه اللبنانيون جميعًا فينْجُوا من أَيِّ قبلةٍ في بستان الزيتون.