ازمة لبنانالاحدث
كانت تَبحث عن هويتِها فَوَجَدَتْها في الأَرزة | بقلم هنري زغيب
جرى ذلك قبل عشْرِ سنواتٍ ذاتَ كانت، صبيحةَ يومٍ ربيعيٍّ من 2014، تحمل ضبابَ تَيَهَانها وتَدخل غابة الأَرز.. توغَّلَت فيها كما إِلى صمْت كاتدرائيةٍ خالية..
ساكنًا كان كلُّ ما حولَها، ومَهيبًا.. ما إِن تقدَّمَتْ من أَرزةٍ كبرى، وارفةٍ كما القدَر، حتى شعرَتْ فجأَةً أَنَّ نبْضًا سيتغيَّر فيها.. حَدَسَتْ كأَنْ طاقةٌ تسلَّلَتْ إِليها من الأَرزة.. كأَنَّ تلك الأَرزة المكْتنِزَةَ في نُسْغها آلافًا من سنوات الصمْت تُخبِّئُ فيها سرًّا… كأَنَّ الأَرزة دعتْها إِلى أَن تَفتَح حواسَّها السِتَّ، وتُحرِّرَ روحَها من زوائل اليوميات، وتُصغي إِلى موجاتِ حياةٍ تَخفقُ في صمْت الأَرز.. توقَّفَت في خُشُوع.. كانت تبحث عن “معنى أَن تكون لبنانية”.. طويلًا كانت تتساءَل عن هوية لم تجِدْها في التحاليل والأَبحاث.. فإِذا الجواب ينهملُ إِليها: فهِمَتْ كما في كشْف رؤْيوي أَنَّ هويتَها هي في تلك الأَرزة… فهِمَتْ “شو يعني” أَن تكون لبنانية.. فهِمَتْ أَنَّ الهوية انتماءٌ إِلى أَرض ووطن.. فهِمَتْ أَنَّ الأَرزة ليست صورةً على بطاقة هوية ولا دَمغَةً على غلاف جواز السفر.. فهِمَتْ أَنَّ الأَرزة تعطينا الجذور لنغْتذي، وتمنحُنا الأَجنحةَ كي نبذُر أَرَجها في العالم… فهِمَتْ أَنَّ ما اختَرَقَها من هَيبة تلك الشجرة: نُسْغٌ يدعوها إِلى وعي الرسالة ونشْرها في الناس.. فهِمَتْ أَنها لم تَعُد مجرَّد رسامةٍ تحمل ريشةً ومَلْوَنًا أَمام قماشة بيضاء، بل هي رسولةٌ بنْتُ لبنان الحضارة على أَرض دهريةٍ
تباركت ببُناتها العباقرة الخالدين.. فهِمَتْ أَنْ عليها ترجمةُ الرسالة بلوحاتٍ وتماثيل..
أَجولُ على لوحاتها فلا واحدةٌ منها إِلَّا وتَنضحُ أَرزًا: هنا جبران والأَرزة، هنا فيروز والأَرزة، فمار شربل والأَرزة، ثورة 2019 والأَرزة، امرأَة مُحَجَّبة والأَرزة، امرأَة حُبلى والأَرزة، وجه امرأَةٍ والأَرزة، رأْس امرأَةٍ والأَرزة، تمثال الشهداء والأَرزة، اليمامة الحمراء والأَرزة، أَيها الربيع والأَرزة، مهاجرٌ يحمل حقيبتَه والأَرزة، حارس الأَرز، …
نَخْرج.. تَصحبُني إِلى الحديقة حيث تماثيلُها المعدنيةُ التي صَدِئَ الوقتُ فيها فخرجَت من تعداد الأَيام.. هنا أَرزة عالية تزقزق في أَعبابها الحمائم وهي خارجة إِلى الوساعة.. هنا رأْسُ امرأَةٍ دماغُها أَرزةٌ تستريح عليها الحمامات حين تَلْتَمُّ من الوساعة.. هنا أَرزة كبيرة ذاتُ أَبعادٍ أَربعة “تَأَرْزَنَتْ” حتى كأَنْ لم تعُد معدنية.. فأَرزة نبَت من أَطرافها رجالٌ هم آباء وبنُوهم منغمسون في أَرزيَّة لبنان.. هنا سفينة فينيقية في قلبها تنتصبُ أَرزة ذاتُ دفَّة من أَحرف فينيقية.. هنا أَرزة تمتد أَغصانها نحو الأُفق اللامحدود كما امتدادُ لبنان الحضارة في الفضاء اللامحدود.. نمشي، نمشي، وهي تَشْرح لي بكل حماسةٍ لبنانيةٍ عن أَبعاد تماثيلها المعدنية التي لكثْرة نبْضها باتت فيها خُضْرة كما محيطها المشكوك أَزهارًا خريفية تنافس جمالًا شقيقاتها الربيعيات..
تنتهي الجولة.. نَعود إِلى البيت.. لا تتوقَّف عن بَوَاحها عن الأَرزة، تلك الأَرزةَ الْكانت زارَتْها قبل عشر سنوات وتَفَيَّأَت طوال عمرها الأَلفيّ وطْول صمتها الدهري، وكيفَ سمعَت في صمْتها ما لا تقوله الكلمات ذاتُ الصوت.. وحين عادت من الغابة، كان ذاك الصمْت دخلَ في ذاتها الجُوَّانية وأَزهرَ إِيمانًا عميقًا بتلك الوارفةِ نصفَ إِلهةٍ ونصفَ شجرة، كم تفيَّأَها رجالٌ تذَهَّب انتماؤُهم بشمس لبنان..
كلُّ هذا الأَعلاه باحت لي به “سانْدرا” مساءً على شرفة بيتها الخشبي الهندسي الفني الـمُعْنِق فوق أَعلى تلَّة من شبروح فاريا ونحن نومئُ لغروب الشمس خلْف تلال تشرين..
هي ذي صبيَّةٌ تحمل في نبْضها إِرثَ لبنان اللبناني، فكْرًا إِيمانيًّا تُترجمه ريشتُها لوحاتٍ تُباركُها أَرزةٌ مقدَّسة على جبين لبنان..
هي ذي رسامةٌ ملتزمةٌ بعقيدة تاريخية من عُمْر لبنان تَتَكرَّس لها رسمًا أَكْرِليكيًّا وتماثيلَ معدنيةً، ورسالةً تحملُها خضراءَ نابضةً إِلى متلقِّيها.
إِحفظوا هذا الاسم: سانْدرا خَيْر صهيون.