قراءة في كتاب مدخل إلى الأيديولوجيات السياسية – أندرو هيود | بقلم صلاح الدين ياسين
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
يعد هذا الكتاب من أهم الكتب التي طالعتها لما فيه من إفادة كبيرة للمختص في حقل العلوم السياسية وأيضا للقارئ العادي، إذ يمكن اعتباره كتابا مرجعيا في موضوع الأيديولوجيات السياسية بخصوص ظروف نشأتها وقضاياها المركزية، فضلا عن التقاليد الفكرية المتنافسة داخل الأيديولوجية الواحدة.
يدقق المؤلف بداية في أصول مصطلح أيديولوجيا ودلالته الأصلية، فقد ظهر المصطلح لأول مرة أثناء الثورة الفرنسية على يد دوتراسي سنة 6179 وكان يحيل إلى “علم الأفكار”, لكن تطورت دلالة المفهوم تدريجيا بعد إضفاء الطابع المنهجي عليه وأصبح يرمز إلى “مجموعة متناسقة من الأفكار بدرجة تزيد أو تنقص بحيث تضع أساسا للنشاط السياسي المنظم” . وتتسم الأيديولوجيا بثلاثة ملامح رئيسة تتمثل في أنها تقدم نقدا للنظام أو للوضع السياسي القائم، كما أنها تقدم تصورا عن المستقبل المنشود أو المجتمع الصالح، إضافة إلى تفسيرها لكيفية إحداث التغيير السياسي.
وهنا وجب التمييز بين الأيديولوجيات الكلاسيكية (الليبرالية، المحافظة، الاشتراكية، القومية) التي تبلورت معالمها خلال القرن 19 في سياق الانتقال من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الصناعي الرأسمالي، والتقاليد الأيديولوجية الجديدة (النسوية، الإيكولوجية، الأصولية الدينية، التعددية الثقافية) التي نشأت إبان منتصف القرن الماضي نتيجة الانتقال من المجتمع الصناعي إلى المجتمع ما بعد الصناعي الذي أضحت فيه القضايا المادية أقل إلحاحا في مقابل بروز قضايا واهتمامات ما بعد مادية كالبيئة وحقوق الإنسان.
وسأحاول في هذا الحيز الاقتصار على تلخيص أهم أفكار الأيديولوجيات الكلاسيكية المتمثلة في الليبرالية والمحافظة، مرورا بالاشتراكية، فالقومية، كما ورد ذكرها في الكتاب على النحو التالي
أولا: الأيديولوجية الليبرالية
تعد الليبرالية أيديولوجية الطبقة الوسطى الصاعدة (البورجوازية) بحيث كانت تعكس تطلعاتها في مواجهة نفوذ طبقة الأرستقراطيين المالكة للأراضي، وتدور القضية المركزية لليبرالية حول إيمانها بأولوية الفرد على الجماعة، إذ تفترض بأن الأفراد كائنات عاقلة تستطيع تحديد مصالحها الذاتية وتسعى وراء تعظيم المنفعة القائمة، وتبعا لذلك ينبغي مكافأة الأفراد بحسب مواهبهم ومدى استعدادهم للعمل، ولعل أهم انعكاسات هذه الرؤية في الفكر الليبرالي نظرية العقد الاجتماعي التي تعتبر بأن المجتمع يتشكل بواسطة الأفراد العقلانيين بغرض صون حقوقهم وأمنهم الخاص.
وإضافة إلى إيمان الليبراليين بالفرد، يمكن اعتبار قيمة الحرية كأحد أهم أعمدة الفكر الليبرالي، وترتبط الحرية في الليبرالية بالعقل، فهي تظل جزءا من إرث التنوير الذي يعد شاغله الأساسي تحرير الإنسان من التبعية الفكرية والجهل والخرافة وتدشين عصر العقلانية، دون إغفال دفاع الليبرالية عن قيمة التسامح وهو ما تجسده المقولة الشهيرة لفولتير “قد أختلف معك في الرأي، و لكنني على استعداد للتضحية بحياتي كي تعبر عن رأيك “.
ومن ضمن أهم القضايا المركزية لليبرالية إيمانها بمبدأ الحكومة الدستورية، فهي وإن كانت تقر بضرورة وجود الحكومة والقانون لضمان حرية الأفراد وعدم اعتدائهم على بعضهم البعض، غير أنها في المقابل تعي المخاطر التي تنطوي عليها وجود الحكومات كونها تملك قابلية للطغيان، وكما قال اللورد أكتون “السلطة تعمد إلى الإفساد، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة”، لذا اقترح الليبراليون إقامة ضوابط دستورية لتقييد الحكومة والتي يمكن تقسيمها إلى ضوابط خارجية تتمثل في الدساتير المكتوبة ومواثيق الحقوق، وضوابط داخلية عبر توزيع القوة السياسية على مختلف سلطات الدولة لدرء خطر الاستبداد.
ثانيا: الأيديولوجية المحافظة
ظهرت الأيديولوجية المحافظة كرد فعل على الثورة الفرنسية وعملية التحديث الاجتماعي في الغرب، وهي تنبع من الرغبة في الحفاظ على التقاليد والنظم والمؤسسات الاجتماعية القائمة لأنها تمنح إحساسا لأفراد المجتمع بالهوية والانتماء والأمن والاطمئنان، بخلاف التغيير الذي تنظر إليه المحافظة على أنه رحلة نحو المجهول مما يولد شعورا باللايقين وعدم الاطمئنان، ومن ثم فهي تدعو إلى مقاومته ومنع حدوثه.
ثالثا: الأيديولوجية الاشتراكية
يرتكز الفكر الاشتراكي بخلاف الليبرالي على الاعتقاد بأولوية الجماعة على الفرد، إذ ينطلق من تصور مخالف للطبيعة البشرية بحيث يصور الأفراد ككائنات اجتماعية لا يمكن فهمها بمعزل عن الآخرين والظروف الاجتماعية، ومن هذا المنطلق فالعلاقات الاجتماعية ينبغي أن تقوم بالأساس على التعاون وليس التنافس الذي يشجع على الأنانية والعدوان، بحيث يدافع الاشتراكيون عن الحوافز المعنوية للعمل التي تجد أساسها في الرغبة في المساهمة في الخير العام ومساعدة المحتاجين.
وإضافة إلى الفلسفة الجماعية، يؤمن الاشتراكيون بقيمة المساواة الاجتماعية، وهنا يرفضون الرؤية الليبرالية التي تقصرها على المساواة في الفرص باعتبار أنها تربي عقلية البقاء للأصلح، ولكن رغم إجماعهم حول هذه القيمة، يختلف الاشتراكيون في تحديد مداها بين الشيوعيين الماركسيين الذين يؤمنون بالمساواة الاجتماعية المطلقة التي تتحقق بواسطة إلغاء مؤسسة الملكية الخاصة والتحول إلى الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، وبين الديمقراطيين الاشتراكيين الذين يدعون إلى المساواة الاجتماعية النسبية من خلال إعادة توزيع الثروة بواسطة دولة الرفاه.
وقد عرض الكاتب في هذا الفصل لأهم منطلقات كارل ماركس الفكرية، بحيث وصف هذا الأخير نتاجه الفكري بالاشتراكية العلمية لأنه لم يكتف بتقديم نقد أخلاقي للرأسمالية، وإنما عمل أيضا على سبر عملية التطور التاريخي والاجتماعي من خلال اعتماده للفهم المادي للتاريخ أو ما عرف بالمادية التاريخية، حيث خلص إلى أن المبنى الفوقي لا يعدو كونه انعكاسا للمبنى التحتي للمجتمع، بمعنى أن الظروف المادية والاقتصادية هي التي تشكل السياسة والقانون والمجتمع، إذ اعتبر أن الأفكار السائدة خلال مرحلة معينة هي أفكار الطبقة الحاكمة (البورجوازية), وأن الطبقة التي تملك وسائل الإنتاج المادي(الثروة) هي التي تملك وسائل الإنتاج العقلي (الثقافة والأفكار).
كما لا يمكن فهم تحليل ماركس للتاريخ دون استحضار منهج المادية الجدلية أو الديالكتيك الذي طوره من هيغل والذي يشير إلى أن التقدم هو نتيجة الصراع أي وجود الفكرة ونقيضها، ومن ثم تنبأ ماركس بحتمية انهيار الرأسمالية لأنها تحتوي على نقيضها أي البروليتارية، إذ ينظر ماركس إلى التاريخ على أنه صراع ممتد بين المضطهدين (بكسر الهاء) والمضطهدين (بفتح الهاء) أي بين السادة والعبيد، بين ملاك الأراضي والأقنان ، بين البورجوازية والبروليتارية، وأن نهاية التاريخ أو الصراع ستتحقق بتشكل المجتمع الشيوعي القائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج مما يضع حدا لجدلية الصراع الطبقي.
وبالنسبة لأهم ملامح نقد ماركس للنظام الرأسمالي، نستحضر هنا مفهوم الاغتراب الذي تسببه الرأسمالية للإنسان بالنظر إلى أن العامل ينتج سلعا ليس في حاجة إليها وإنما الهدف الأساسي من هذه العملية هو در الأرباح على ملاك رؤوس الأموال، كما أضاء ماركس على الاستغلال الاقتصادي الذي يتجسد في حرمان العمال من فائض القيمة لحصولهم على رواتب أقل من قيمة العمل التي يولدونها، وفي هذا الصدد يراهن على أن الطبقة العاملة ستطور من تلقاء ذاتها وعيا طبقيا سيؤدي إلى الإطاحة بالرأسمالية، في حين تشدد الماركسية اللينينية (نسبة إلى فلاديمير لينين) على الحاجة إلى حزب ثوري يقود الطبقة البروليتارية من الوعي النقابي إلى الوعي الطبقي الثوري.
رابعا: الأيديولوجيا القومية
تعود جذور القومية إلى الثورة الفرنسية التي اندلعت باسم الأمة والسيادة الشعبية وهو ما يجد أساسه في تنظيرات الفيلسوف جان جاك روسو، غير أنها لم تعد حكرا على فرنسا بعدما انتشرت في مجمل أنحاء القارة الأوروبية على إثر الحروب النابوليونية (1815_1792) التي عززت الوعي القومي سيما وأن أوروبا في تلك الفترة لم تكن تعرف قيام دول وطنية كما هو عليه الحال الآن، إذ شهدت تلك الحقبة هيمنة الإمبراطوريات متعددة القوميات والممالك والإمارات كما هو عليه الحال مع إيطاليا وألمانيا، ومن ثم فالغاية الأساسية للفكرة القومية هي تشكيل نموذج الدولة-الأمة(l’État nation) .
بناء على ما سبق، فإن القضية المركزية للأيديولوجية لقومية هي إيمانها بأن الأمة ينبغي أن تمثل المبدأ المركزي للتنظيم السياسي، بحيث تتطابق الحدود القطرية للدولة مع حدود الانتماء القومي لمواطنيها كما قال بذلك جون ستيوارت مل، وهنا وجب التمييز بين المفهوم الاستبعادي للأمة الذي يختزلها في وجود روابط تضامن مشتركة بين أعضائها كاللغة والدين والتاريخ المشترك والذي ارتبط بالتيارات المحافظة والفاشية، والمفهوم الاستيعابي للأمة بحيث يمكن أن تكون في هذه الحالة متعددة الانتماءات الاثنية والدينية ما دام أن الرابط بين أعضائها هو فكرة المواطنة، وهو المنظور الذي تدافع عنه التيارات الليبرالية والتقدمية.