مَصيرُ الانتخابات اللبنانية المُقبِلة في ضوءِ عِلمِ الإدارة ونَظَريّة الوكالة | كتب البروفسور بيار الخوري
نشر هذا المقال اولا في أسواق العرب اللندنية قبل أيام قليلة من اكتساح "النقابة تنتفض" انتخابات المهندسين في بيروت. هذه الانتخابات التي أكدت صحة الاستنتاج الاساسي للمقال حول مصلحة الطبقة السياسية بعدم إجراء الانتخابات النيابية وعلاقة الوكالة التي ظهرت بمعناها الواضح في الفرع السادس (الناشر)
تأسُرُني دائماً فكرة الكتابة عن الإدارة العامة بالإستناد إلى مباحث إدارة الشركات. وقد وجدتُ روابطَ جمّة تربطُ بين الإدارتين خصوصاً تلك المُتعَلّقة بالدوافع السلوكية للبشر، حيث يلعب ضعف الحَوكَمة الرشيدة وغياب المُساءَلة دوراً في تحويل المُوَظّف العام إلى مالكٍ أو مديرٍ عام.
بل بغيابِ الحَوكَمة يتحوّل الموظّف العام الى مُحتكِرٍ لعناصر السلطة، والقوة لا تتوافر في أيدي المالكين والمدراء في الشركات المملوكة لمئات الاف المساهمين، أو تلك التي تبتغي سلامة مُستقبلها وقيمتها السوقية من خلال سلامة ورشد نظام الحَوكَمة فيها.
خلال نقاشِ موازنة 2019 في لبنان، كتبتُ عن الأصيل والوكيل في الصراع على الموازنة، واستندتُ وقتذاك إلى نظرية الوكالة المعروفة في علم الادارة (Agency Theory) حيث يلعب حَمَلةُ الأسهم دور الأصيل (Principal) ويلعب مدراء شركات الأسهم دور الوكيل (Agent). تكمن المشكلة في أن المُدَراءَ المُعَيَّنين لتعظيم ثروة أصحاب الأسهم يميلون إلى تعظيم مصالحهم الخاصة في معرض خدمتهم لأهدافِ الشركة. لقد قمتُ بتمثيلِ حَمَلةِ الأسهم بصفتهم الشعب اللبناني وتمثيل المدراء بصفتهم الطبقة السياسية وهم يأخذون شرعيتهم إما من وكالة الشعب للنواب بالانتخاب المباشر، وإما من توكيل هؤلاء الوكلاء لباقي أبناء الطبقة.
والموازنة هي المكان الرحب لصراع المصالح بين المصلحة العامة ومصالح الوكلاء وبين مصالح الوكلاء في ما بينهم. هذه الحقيقة تدفع، في ظل غياب الحَوكَمة الرشيدة إلى تفلّت الوكلاء من كلِّ ضابطٍ لتعظبم مصالحهم الخاصة على عكس مدراء الشركات الذين يعملون دائماً على تمرير مصالحهم بما يضمن حصول حَمَلَة الأسهم على العائد المُستَهدَف بما يضمن تجديد مراكزهم على كراسيهم.
بطريقةٍ أو بأُخرى كان هذا يحصل في لبنان من خلال نظام الزبائنية حيث تضمن الطبقة السياسية إعادة تجديدِ الولاء لها وتجديد مواقعها على الكراسي من خلال نظام الوظيفة ( للموظفين والموعودين بالوظيفة مستقبلاً) ونظام الشراء العام من خلال الشراكة مع المراكز الاقتصادية للسيطرة على المناقصات او الاتفاقات المباشرة المُتبادَلة (de gré à gré) او الخدمات خارج القانون، ولكن ليتمّ ذلك كان يجب في كل مرة إضعاف القانون العام والحَوكَمة السليمة.
لا يحصل ذلك بدون ثمن، إذ ليس هناك في هذا العالم همبرغر بالمجان ( There is no such a free burger) كما يقول الأميركيون. يدفع الاقتصاد الثمن في كل مرة تعجز السياسة عن تظهير مخرجاتها بطريقة تنافسية!
أعتَقدُ إن مَن كان يشكّ بذلك قبل الأزمة قد غير رأيه الآن. عقودٌ من الإعتداء على المال العام والخاص، ومن المحاباة والمحسوبية، وتجاوز القانون والتزوير السياسي، وانعدام الكفاءة المُصاحِبة لانظمة المُحاباة، أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه في العام 2019 ويستمر فيه بأسوأ أشكاله اليوم.
نحن حالياً أمام طبقة سياسية تتحلَّل من كافة أشكال الشراكة مع الأصيل بشقّيه: الشعب الذي لم تصله أصلاً نِعَمُ الوكيل (حوالي نصف اللبنانيين) والشعب الذي عاش رغد تلك الشراكة مع الوكيل (النصف الثاني أو جمهور الناخبين).
فإلى أين سنذهب؟ وكيف ستتجدّد تلك المساومة؟ وهل سيقبل الأصيل بالتنازل عن مُكتسباته من الوكيل ويقبل بتجديد الوكالة؟
رُغم كل الحديث عن انتخابات نيابية مُبكرة أو في موعدها، لدي حدثٌ علمي يقول بأن الطبقة السياسية ستعمل كل شيء من أجل منع هذا الاستحقاق. تنجح او تفشل في مسعاها، ذلك أمرٌ آخر.
الطبقة السياسية دخلت في ظاهرة أُخرى تُسمّى في علم الإدارة تصعيد الإلتزام (Escalation of commitment ) التي سوف أُفَصّلها على سلوك هذه الطبقة في مقالي المُقبل.
المصدر: اضغط هنا