يسمحلنا الخواجة لودريان | بقلم هنري زغيب
عمَلًا بمقولة “تيتي تيتي”، زارنا المندوبُ الماكروني جان إِيف لودريان وغادَرَنا، متجهِّمَ الوجه كما جاء، متعاليَ النبرة كأَيِّ مفوَّضٍ سامٍ، أَو مندوب سامٍ، أَو منتدِبٍ آمرٍ ناهٍ على صورة الجنرال غورو ومن جاء بعده طوال 23 سنة من الانتداب الفْرنسي حتى فجر الاستقلال سنة 1943 وانسحاب الجيوش الأَجنبية عن لبنان سنة 1946.
وبعدما كان الجان إِيف أَهدانا سابقًا تصريحه التحذيري التوصيفي بأَنَّ “لبنانَ مُعرَّضٌ للغرَق كما سفينة التيتانيك”، لم يشأْ أَن يغادرنا هذه المرة أَيضًا إِلَّا بعدما أَهدانا تحذيرًا مماثلًا بأَنَّ “وجودَ لبنان السياسيَّ في خطَرِ أَن ينتهي فلا يبقى سوى لبنان الجغرافي”.
نفهم أَن ييْأَسَ المسيو جان إيف من زياراته المكوكية المتشابهة المتلولبة لدى طقم سياسي موهوب بالتمترُس وراء أَفكاره وعناده وتشبُّثِهِ بقراراته المسْبَقَة والراهنة والمقبلة فلا يتزحزح عنها حتى يحقِّق مآربه ولو على حساب الشعب اللبناني. ونفهم أَن يكون، كسياسيٍّ ودبلوماسيٍّ وموفَدٍ خبير، خرج من اجتماعاته الأَخيرة كما من اجتماعاته السابقة، بنتيجة “تيتي تيتي”، وأَن ينعى، أَو أَنه يكاد ينعى، لبنان السياسي الذي يقوده حكَّامٌ أَقلُّ جرائمهم إِيصالُ لبنان إِلى ما هو عليه اليوم. فلبنان السياسي، بسبب تناحُر سياسييه المأْجورين أَو المستزْلِمين أَو المصلحجيين الأَنانيين الشخصانيين، مرَّ بجلاجلَ عدةٍ رزح تحت صليبها مراحلَ ودروبًا، فكان مُقَلَّعًا ثم مُرقَّعًا ثم مُفَلَّعًا ثم مُشَلَّعًا شراذمَ مع السَلطنة بوُلاتها فقامقاميَّتَيْها فمتصرفيَّتها فخارطة سايكس-بيكوِّها، ولم يكن يومًا دولةً ذاتَ هيبةٍ سياسيةٍ وقرار.
كلُّ هذا نفْهَمُهُ، وربما يعرفُه مسيو لودريان أَن فْرنساهُ وَضَعَت كفَّها على لبنان 23 سنةً، فكانت تعيِّنُ حكامه مثلما اليوم تسعى مع لجنة خماسيةِ المآثر إِلى أَن تعيِّن لنا حاكمًا بعدما السياسيون اللبنانيون الأَشاوس عجزوا عن الاتفاق لانتخاب رئيس دون تدخل لودرياني أَو خماسي دبلوماسي على غرار ما كناه تحت وصايات القناصل في الأَمس القريب من تاريخنا.
لكنَّ الذي قد لا يكون يعرفه المسيو لودريان أَنَّ الباقي الذي يطمئننا على بقائه: لبنان الجغرافي، هو هيكل عظمي جرَّدَه سياسيُّو لبنان من لحمه ودمه، وتركُوه سُلطة مفْرغة في دولةٍ مُفْرَغة دائخة مشلولة شحَّادة على أَرصفة الدول.
وما قد لا يكون يعرفه المسيو لودريان أَن لبنانَ الوطن أَوسعُ من جغرافيا أَرضه التي ليست أَكبر من مقاطعة في الصين أَو بلدية في البرازيل. فلبنان الوطن لا يُقاس بأَرضه الضئيلة بل حدودُه العالم بلُبنانيين مخنوقين مقموعين على أَرضه ومحلِّقين في دول العالم بطاقاتهم الرائعة الخلّاقة المخْلصة المستعدَّة أَن تعيد الهيكل العظمي جسمًا نابضًا بالحياة والعطاء. وهذا هو لبنان الوطن الخالدُ الأَقوى من دولة مفلسة وسلطة عقيمة، وهو اللبنان الذي سطَّر في تاريخ العالم حضورًا خالدًا أَينما حلَّ في العالم.
لذا، يسمحلنا المسيو لودريان بأنَّ الذي ينعاه هو فقط لبنانُ السياسيُّ النتِن المهترئ العفِن بسياسييه، وأَنَّ لبنان الجغرافي الذي يطمْئِنُنا بأَنه سيبقى هو أَرضٌ كما لكل بلدٍ في العالم أَرضٌ لكنها ليست معيارًا للوطن. فالوطن اللبناني أَوسعُ من أَرضه، لكنَّ علَّته أَنَّ على أَرضه بعضًا من شعبه يَلعَن حكَّامه يومَ السبت ويذهبُ ليَنْتَخِبَهُم يوم الأَحد ليعودَ فيلعنَهم بدءًا من صباح الإِثنين لأَنهم لم يتفقوا على انتخاب رئيس للجمهورية فتعود إِلى الدولة هيبتُها المفقودة وسلطتُها المحدودة. ومتى ينتفض شعبُنا على جلَّاديه يوم الانتخاب لن يعود لبنان في حاجة إِلى أَيِّ لودريان، بل ينهضُ من أَتونه القاتل وتتصالح فيه السلطة مع الدولة، ويُشْفى من أَمراضهما الوطن.
نشر المقال في ” النهار” أولا.