الحرب في أوكرانيا ستزيد من صُعوبةِ إدارةِ الأزمات الأخرى في العالم | بقلم غابي طبراني
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
في الوقت الذي لا يزال العالم يُركِّزُ على العواقب البشرية والسياسية المُرَوّعة للنزاع في أوكرانيا، هناك خطابٌ خفيٌّ يُقارِنُ الاهتمامَ الشديد بهذا الصراع بالاهتمام المُتقَطِّع والمُتضائل على مدى السنوات القليلة الماضية بمعاناة المدنيين وأعمال العدوان في أماكن مثل أفغانستان أو سوريا أو اليمن أو إثيوبيا أو الصومال. كان يمكن، بل كان ينبغي، عمل المزيد في تلك الصراعات الأخرى. لكن هناك أسبابًا مهمّة لهذا الاهتمام الشديد بأزمة أوكرانيا، والتي يُمكن النظر إليها على أنها حربٌ ضمن حربٍ أكبر – ومن المؤكد أن تكون لها تأثيراتٌ مُضاعَفة في جميع أنحاء العالم.
بادئ ذي بدء، من المهم التأكيد على أن هذه ليست سوى بداية هذا الصراع. منذ 24 شباط (فبراير)، لقي ما يقدر بنحو 2,500 مدني وآلاف الجنود مصرعهم في أوكرانيا. ولا شك أن هذه الأرقام هي أقل بكثير من الأعداد المُسَجّلة في الصراعات الأخرى. لقد سجّل “مشروع موقع وأحداث النزاع المسلح” (Armed Conflict Location and Event project)، وهو مُبادَرة غير ربحية لجمع البيانات، حوالي 42,450 حالة وفاة في أفغانستان، و18,410 في اليمن و11,000 في ميانمار في العام 2021 وحده. ولكن بالنظر إلى نمط الهجمات الروسية في أوكرانيا، والتي خرجت بالفعل عن معايير القانون الدولي، فمن المؤكّد أن عدد القتلى هناك سيزداد بشكل مأسوي.
أطلقت روسيا مئات الصواريخ وقذائف المدفعية على المدن الأوكرانية، ما أدّى إلى تدمير الساحات المدنية والمناطق السكنية، وحطّمت الذخائر العنقودية المرافق الطبية وغيرها من البنى التحتية الحيوية. وعندما واجهت القوات الروسية مقاومة، كما هو الحال في مدينة “ماريوبول” الساحلية، قامت بفرضِ حصارٍ، حيث أغلقت طُرُقَ إجلاء المدنيين وقطعت الطعام والماء والكهرباء عن أولئك العالقين في داخل المدينة. على الرغم من فظاعة الحطام والهدم والعنف التي جرت حتى الآن، يقول معظم الخبراء في الشؤون الروسية أن الكرملين يتباطأ الآن، لكنه سوف ينشر قريبًا المزيد من الأسلحة والتكتيكات الفتّاكة والعشوائية. ومع بقاء ما يُقدَّر بنحو 43 مليون أوكراني في المنطقة المُستَهدَفة، فإن الأسوأ لم يأتِ بعد.
علاوة على ذلك، يُمكن أن تكون لهذه الأزمة تداعيات جيوسياسية دراماتيكية، يتردّد صداها بطُرُقٍ قد تؤدّي إلى تفاقم الديناميكيات السياسية للصراعات والأزمات الأخرى على مستوى العالم. لقد بلورت أزمة أوكرانيا وجود حقبةٍ جديدة من سياسات الحرب الباردة في العلاقات الدولية، ليس فقط بين الولايات المتحدة وروسيا، ولكن أيضًا، وربما أكثر من ذلك، بين أميركا والصين. إن العودة إلى عصر القوى المُتنافسة والتأثير العالمي، بدون رادع واحترام المعايير الأساسية لعدم العدوان، لديها القدرة على إشعال الحروب بالوكالة والعنف في العديد من الساحات. بالفعل، هناك مخاوف من أن هذه اللحظة الجديدة ستُشجّع الصين على التحرّك نحو تايوان، أو أن تَقَدُّمَ روسيا لن يتوقّف عند أوكرانيا.
كما أن العودة إلى المنافسة الصفرية على المسرح العالمي من شأنها أن تهدمَ أيّ احتمالات مُتبَقِّية للتعاون المُتعدّد الأطراف وإدارة الأزمات. في الأسبوع الفائت، أشارت المداولات في الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى عودةِ المنطق السياسي المُدمّر الذي سيطر على المنظمة خلال الحرب الباردة. كانت الدول الأعضاء تناقش مشروع قرار يُدين العدوان الروسي على أوكرانيا، والذي كانت روسيا استخدمت حق النقض ضده أصلًا في مجلس الأمن. في النهاية، أيّدت 141 دولة القرار، الذي أدان سلوك روسيا ودعا قواتها إلى الانسحاب، وعارضته خمس دول فقط، بينما امتنعت 35 عن التصويت.
لقد بعث التأييدُ الساحِقُ للقرار برسالة سياسية مُهمّة للتضامن مع أوكرانيا. لكن إلقاءَ نظرةٍ فاحصة على الدول المُمتَنِعة عن التصويت يُشيرُ إلى بوادر مُقلقة للمداولات المستقبلية في الأمم المتحدة. كان من الواضح من خطاباتهم أن العديد من الدول لم تنظر إلى القضية على أنها مسألة ما إذا كانت روسيا انتهكت المادة 2 (4) من ميثاق الأمم المتحدة – التي تُحظّر التهديد أو استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية للدول الأخرى – ولكن التصويت كان لصالح أو ضد مصالح روسيا والولايات المتحدة. في مواجهة هذا الاختيار الصعب، امتنعت البلدان في جميع أنحاء إفريقيا وآسيا، التي تجد نفسها في كثيرٍ من الأحيان مُمَزَّقة بين القوى المُتنافسة، عن التصويت.
بعد كلِّ شيء، لا تزال روسيا هي الزعيم العالمي بلا منازع في شيء واحد على الأقل: استخدام حق النقض في مجلس الأمن. لقد مارست روسيا وسلفها الاتحاد السوفياتي هذا الفيتو 143 مرة، أي ضعف ما استخدمته الولايات المتحدة، التي مارسته 83 مرة، وشكّلت أقل من نصف جميع حالات النقض البالغ عددها 293 في تاريخ المجلس. تُدرِكُ الدول جيدًا هذا الاتجاه، ولا شكّ أن العديد من الذين امتنعوا عن التصويت أرادوا تجنّب إثارة غضب روسيا، تحسّبًا من تأثير ذلك على نتيجة التصويت في مجلس الأمن في المستقبل.
على سبيل المثال، لا الهند ولا باكستان -وكلاهما امتنع عن التصويت- تريدان أن تصوّت روسيا ضدهما في حالة حدوث اندلاعٍ آخر حول إقليم كشمير المُتنازَع عليه أمام مجلس الأمن. دولٌ مثل السودان ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان والكونغو – التي امتنعت جميعها عن التصويت – لديها جميعها تذكيرات حديثة بالقوّة الوقائية لحق النقض الروسي، الذي حماها من عقوبات مجلس الأمن أو اللوم أو مزيد من التحقيقات في العام الماضي. وأفادت تقارير أن الإمارات العربية المتحدة امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن من أجل كسب دعم روسيا لتصنيف الحوثيين في اليمن على أنهم إرهابيون. وقد رفضت سفيرة الإمارات في الأمم المتحدة، لانا نسيبة، لاحقًا هذا التفسير، لذلك ربما كانت العلاقة الأمنية المتنامية للإمارات العربية المتحدة مع روسيا – أيضًا اعتبارًا مهمًا للدول المُمتنعة الأخرى – هو العامل الحاسم.
كما لم يكن التصويت تُمليه ديناميكية القوّة بين الولايات المتحدة وروسيا. يشير الامتناع عن التصويت من دولٍ مثل جنوب إفريقيا والدعم المتأخّر لدولٍ مثل مصر إلى إمكانية إعادة تنشيط حركة عدم الانحياز، وهي مجموعة الدول التي رفضت الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. في الوقت نفسه، فإن العديد من الدول الآسيوية التي امتنعت عن التصويت، والتي يتمتّع العديد منها بعلاقاتٍ ودّية مع الولايات المتحدة ولديها أسباب وجيهة لمعارضة العدوان عبر الحدود، تُشيرُ إلى التأثير الكبير للصين، التي امتنعت عن التصويت. لذا ليس من المستغرب أن تكون أنماطُ التصويتِ هذه نذيرًا للانقسامات المستقبلية في الأمم المتحدة بين تكتّلات القوى العظمى.
إن عودة ظهور التصويت على غرار الحرب الباردة في الأمم المتحدة أمرٌ مُثيرٌ للقلق. إذا لم يعد التصويت يستند إلى ما إذا كان إجراءٌ مُعَيَّن يتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة والمعايير الدولية الأخرى، ولكن تم اتخاذه بدلًا من ذلك من خلال الانتماء السياسي والحسابات، فهذا بحدّ ذاته يُمثّل تآكلًا خطيرًا لسيادة القانون مثل العدوان الروسي على أوكرانيا .
علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي تعطّل التعاون المُتعدّد الأطراف وإدارة الأزمات أيضًا إلى تكبّدٍ في الأرواح والتسبّب في مزيدٍ من الانتكاسات لحقوق الإنسان. إن الجمود في مجلس الأمن في السنوات القليلة الماضية – ما يمكن أن نعتبره الآن بوادر للمواجهة الجيوسياسية الحالية – هو سببٌ رئيس لعدم القيام بالمزيد استجابة للأزمات في سوريا وميانمار وإثيوبيا واليمن والعديد من البلدان الأخرى. في الأشهر القليلة الماضية، بينما كانت التوترات في أوكرانيا تستحوذ على الاهتمام، قامت روسيا بتجميد تجديد العديد من لجانِ المُراقبة الرئيسة التابعة للأمم المتحدة التي كانت تُسلّطُ الضوءَ على تهريب الأسلحة والوحشية والقتل العشوائي في جمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان والكونغو ومالي.
من المستحيل تحديد عدد القضايا الأكثر أهمية وفُرَص حلّ النزاعات التي ستتأثر إذا استمر المناخ الحالي للمناورات السياسية المُتبادَلة واتجاهات التصويت بنهج “نحن – وهم”. في الشهر المقبل، سيصوّت مجلس الأمن على تجديد تفويض بعثة الأمم المتحدة في أفغانستان، المعروفة باسم “يوناما” (UNAMA). إن القيام بذلك لن يحل الأزمات السياسية والاقتصادية الأكبر في أفغانستان، ولكن يُحافظ على وجودٍ قوي للرصد والإبلاغ من قبل الأمم المتحدة، والذي هو أمرٌ بالغ الأهمية للمحافظة على مساحة المجتمع المدني وحرية الصحافة في البلاد. تُشيرُ تعليقات ممثلي الولايات المتحدة إلى أنهم على استعداد للضغط من أجل تفويض “يوناما” على هذا المنوال. في المناخ السياسي الحالي، قد يؤدي ذلك إلى انتقامٍ روسي أو صيني بحق النقض، ما يجعل المزيد من تدهور الحقوق والحريات الأفغانية هو التداعيات المُحتَمَلة التالية للأزمة الأوكرانية.
هذه الآثار الثانوية ولكنها ليست عَرَضية هي التي تجعل مشاهدة الصراع المستمر في أوكرانيا أكثر حزنًا. حتى لو كان هناك حلٌّ قريب لأزمة أوكرانيا – وهو احتمالٌ يبدو غير مُرَجَّح نظرًا إلى عدم وجود إشارات مُشجّعة وخصوصًا من الكرملين أو استراتيجيات خروج من الآزمة معروضة – فإن العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة، وبين روسيا والدول الأوروبية الأخرى، ستظل سيئة لسنوات. نتيجة لذلك، من المؤكّد أن الأضرار الجانبية الحقيقية لهذا الصراع ستمتدّ إلى ما هو أبعد من الحدود الإقليمية لأوكرانيا، أو حتى الحدود الإقليمية لأوروبا.