المادتان 4 و 5 من المعاهدة التأسيسية لحلف الناتو ومحاولات زيلينسكي المكشوفة | بقلم د. عوض سليمية
تاريخياً، تأسس حلف الناتو والمادة 5 في الرابع من نيسان/ ابريل عام 1949، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي أفرزت قطبين كبيرين متنافسين (الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي والكتلة الغربية تقودها الولايات المتحدة) والتي ساد علاقاتهما حرباً باردة انتهت مع إنهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. الامر الذي منح حلف الناتو فرصة مواتية لتوسيع حدوده وإبتلاع جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ودول حلف وارسو التي كانت تحت مظلة الكتلة الشرقية، بما فيها هنجاريا، بولاندا، جمهورية التشيك، بلغاريا، رومانيا…). يضم الحلف الان 30 دولة، وجيش مسلح قوامه 3.5 مليون جندي وميزانية تناهز 1 تريليون دولار وتغطي الولايات المتحدة معظم نفقاته، وكانت محاولات إلحاق اوكرانيا بدول الحلف والاقتراب من ابواب موسكو هو الحلم الذي لم يتحقق.
منذ انطلاق العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا بتاريخ 24 شباط/ فبراير 2022، بدأت التصريحات تتزايد بشأن إمكانية اللجوء الى تفعيل المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الاطلسي الناتو، وإرتفعت وتيرة هذه التصريحات خلال اليومين الماضيين عقب سقوط صاروخين اوكرانيين مصدرهما منظومة S300 المضادة للصواريخ على الاراضي البولندية، حيث لقي مزارعان بولنديان مصرعهما في بلدة برزيودو المتاخمة للاراضي الاوكرانية، وقبل إنطلاق التحقيق الاولي لمعرفة مصدر الصاروخين، تعالت اصوات في كل من واشنطن وبروكسل للاستثمار في هذا الحادث وتوسيع الرقعة الجغرافية للحرب، وبقصد تصعيد الاستفزاز لموسكو، إستحضر رعاة الحروب الحديث المتعلق بإحياء فكرة إقامة منطقة حظر طيران جوي فوق اوكرانيا لمواجهة الطيران الروسي، وطالبو بتفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف. على الرغم من ان امين عام حلف الناتو ينس ستوتنلبرغ، إعترف بعد التقييم الاولي وعقب تصريحات الرئيس البولندي اندريه دودا، بان منظومة الدفاع الجوي الاوكراني اخطأت أهدافها وسقطت صواريخها في الاراضي البولندية. ومع ذلك، حمل ستوتنلبرغ روسيا المسؤولية الكاملة عن هذا التطور، وهو الامر ذاته، الذي سبق وان أعلنته المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض أدريان واتسون، وقالت: “مهما كانت الاستنتاجات النهائية، فمن الواضح أن الطرف المسؤول في النهاية عن هذا الحادث المأساوي هو روسيا”.
وفقاً لشرح الموقع الرسمي لحلف شمال الاطلسي على شبكة الانتنرنت، فإن مبدأ الدفاع الجماعي هو جوهر المعاهدة التأسيسية لحلف شمال الأطلسي، والتي تربط بين أعضائه، وتلزمهم بحماية بعضهم البعض وإرساء روح التضامن داخل التحالف. وأن هذا المبدأ مكرس في المادة 5 من معاهدة واشنطن. والتي تنص على أن «هجومًا مسلحًا ضد واحد أو أكثر من الأعضاء في أوروبا أو أمريكا الشمالية يعتبر هجومًا عليهم جميعًا» ويمكن استخدام القوة ردًا على ذلك. وهو ما اشار اليه الرئيس بايدن باعتباره التزاماً مقدساً من قبل واشنطن تجاه حلفائها في الناتو. من ناحية اخرى، تمنح المادة 4 من الميثاق للدول الاعضاء حق طرح أي قضية مثيرة للقلق، خاصة المتعلقة بالأمن، للمناقشة والتشاور في مجلس الحلف، وهو اعلى هيئة لصنع القرار في مؤسسات الحلف.
في الواقع، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، إستخدم حلف الناتو قوته العسكرية بما فيها الاسلحة المحرمة دولياً في اكثر من منطقة في العالم، دون الحاجة الى وجود ما يبرر تفعيل المادة الخامسة من ميثاقه، وصيغ هذا العدوان تحت حجج جديدة ظاهرها حفظ الامن والاستقرار، أو ما اطلق عليه قادة الحلف، وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، دون تفويض من الامم المتحدة او مجلس الامن الدولي صاحب الوصاية القانونية في حفظ الامن والسلم الدوليين، بما فيها العدوان على: يوغوسلافيا، صربيا، ليبيا، عمليات في البحر الأبيض المتوسط، عمليات عسكرية في القرن الإفريقي والصومال… الى جانب العدوان التدميري الشامل على افغانستان والعراق. وقد اودت هذه العمليات العسكرية بحياة الاف الارواح من المدنيين، وتدمير البنية التحتية وتحويل الاوطان المستهدفة الى دول فاشلة غير مستقرة، تستدعي مبررات إستمرار وجود جيوش الناتو على ارضهم، أو قبالة سواحلهم لتأمين مصالحهم.
بعد احداث 11 سبتمبر 2001، بدأ حلف الناتو في تفعيل المادة 5 من ميثاقه لأول مرة، تحت مبررات ان احد اعضائه/ واشنطن، قد تعرض لعمل عدواني خارجي، مما يستدعي استخدام اعلى درجات القوة بما فيها الردع العسكري للعدو وفق نص المادة 5 للحلف. وهي المادة التي تكشف الوجه الحقيقي للغرب الديموقراطي واطماعه الاستعمارية السائدة. وتمنحه السلطة بتجاوز القوانين ونُظم العلاقات الدولية السائدة، والانطلاق نحو تدمير الدول واسقاط الانظمة التي ترفض الانصياع لتنفيذ المصالح الامريكية والغربية. وبدأ الحلف بتوزيع التُهم على دول العالم ومؤسساته، والتي تتراوح بين رعاية ودعم الارهاب العالمي، وفي هذه الحالة كانت التهمة من نصيب افغانستان عام 2001، الى جريمة حيازة وتطوير الاسلحة النووية، وكانت هذه الادانة المُلصقة دون دليل من نصيب العراق عام 2003، كمبررات لتدمير البلدين.
يخطئ الرئيس الاوكراني زيلينسكي في تقييم وزنه الحقيقي لدى دول حلف الناتو، عندما يعتقد انه بمجرد سقوط صواريخه في بولاندا – العضو في حلف الناتو، يعني ببساطة تفعيل المادة الخامسة، وبالتالي إندفاع جيوش الحلف للمواجهة المباشرة مع الجيش الروسي، لان مثل هذه الخطوة تتطلب اجماعا داخل دول الحلف، ويبدو انشغاله في إنفاذ التعليمات اليومية الواردة اليه عبر بريد واشنطن كوكيل حرب، تبقيه بعيداً عن قراءة الواقع في اوروبا، بما فيها الوقوف على تصريحات الرئيس الفرنسي – الضلع الثالث في حلف الناتو المسلح نووياً بعد امريكا وبريطانيا، والذي ازاح الغموض الاستراتيجي ودفع المؤشر بعيداً في وضوحه خلال مقابلته على قناة فرانس2 بتاريخ 13 اكتوبر 2022، حيث قال: “إن العقيدة النووية للبلاد تستند إلى «المصالح الأساسية للأمة»، والتي «لن تتأثر بشكل مباشر إذا كان هناك، على سبيل المثال، هجوم نووي باليستي على أوكرانيا، أو في المنطقة».
بعبارة أخرى، إن تفعيل المادة الخامسة في ميثاق حلف الناتو أمر مخيف بالنسبة لدول الحلف، ويحتاج الى استحضار الحكمه بأعلى مستوياتها، بما فيها وضعية الدفاع عن الاعضاء بما يتناسب وطبيعة الهجوم، وهناك فرق عند تفسير المادة الخامسة، بين هجوم متعمد وبين صواريخ ضلت طريقها، حتى لو سقطت في اراضي دولة عضو في حلف الناتو، وقد سبق ان تدارك الطرفان خطورة الموقف عندما اسقطت مقاتلة تركية طائرة روسية في شمال سوريا، والحادث هنا في بولاندا اقل خطورة من سابقه، فلا يتوفر لدى بولاندا إشارات بان اراضيها تعرضت لهجوم متعمد حتى لو كانت الصواريخ روسية، وبالتالي، لا اعتقد ان دول الحلف مستعدة لخلق مخاطر مصدرها الاعيب الرئيس زيلينسكي، خاصة ان الخصم في هذه الجولة هي روسيا، لان من شأن تفعيل المادة الخامسة مباشرةً إعلان حرب عالمية ثالثة موجهة ضد دولة مسلحة نووياً، ولا يمكن التنبؤ بكيفية انهائها.