تشكيلُ التحالُفات المُتسارع هو دائمًا علامةٌ سَيِّئة | بقلم غابي طبراني
يَدخُلُ العالمُ زمنًا محفوفًا بالمخاطر، حيث تتسارَعُ عمليةُ توحيدِ كُتَلِ التحالُفاتِ المُتنافِسة. في الأسبوع الفائت، وَقَّعَت روسيا وكوريا الشمالية اتفاقيةً للدفاعِ المُشترك في بيونغيانغ وَصَفَها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنّها تُحَدِّدُ “مهامَ ومَعاييرَ واسعةَ النطاقِ لتَعميقِ العلاقات الروسية-الكورية في المدى الطويل”. ويُظهِرُ الكَشفُ العلني عن الاتفاقية أنَّ البلدَين يستعدّان لتعزيزِ علاقتهما بما يتجاوزُ توفيرَ الصواريخ التي كانت كوريا الشمالية تُزَوِّدُ بها روسيا أصلًا في حربها في أوكرانيا.
يأتي التوقيعُ على الاتفاقِ بين روسيا وكوريا الشمالية في أعقابِ الاجتماعِ الذي عُقِدَ الشهر الماضي بين بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ، حيثُ أَكَّدَ الزعيمان على الصداقة “غير المحدودة” بين بلديهما من خلالِ الدعوةِ إلى “حقبةٍ جديدة” حيثُ “نُعزِّزُ ونرعى” فيها “الشراكة التي تمَّ تحقيقها بشَقِّ الأنفس”، على حَدِّ تعبيرِ شي. ويأتي هذا على رأسِ المُحادثاتِ الاستكشافية بين روسيا وإيران للتَوَصُّلِ إلى اتفاقٍ قد يتمُّ توقيعهُ “في المستقبل القريب جدًا”، وفقًا لنائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودنكو. وتقومُ طهران بالفعل بتزويدِ روسيا بطائراتٍ مُسَيَّرة لاستخدامها في الحرب في أوكرانيا، ومن المُمكِنِ أن يؤدّي التَوَصُّلُ إلى ترتيبٍ أمني رسمي بينهما إلى تعزيز وتعميق هذه العلاقة.
في الوقت نفسه الذي تعمل روسيا على بناءِ شبكةِ تحالفاتها مع دولٍ استبدادية، فإنَّ القوى الغربية –وفي المقام الأول أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذين سيعقدون قمّتهم السنوية في غضون أسبوعين- تَعمَلُ بدورها على توحيدِ نفسها ككُتلةٍ واحدة موَحَّدة. وقد أُعلِنَ الأسبوع الفائت أنَّ 23 من أصل 32 بلدًا عضوًا في “الناتو” تجاوزت الآن هدف الحلف المُتَمَثِّل في إنفاقِ ما لا يقلُّ عن 2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. ويأتي هذا بالإضافة إلى قيام “الناتو” أخيرًا بإضافةِ عضوَين جديدَين، فنلندا والسويد، فضلًا عن توضيحِ نيّته السماح لأوكرانيا في نهايةِ المطاف -التي يُشَكّلُ غزوها نقطةَ الخلاف المركزية بين الغرب وروسيا- بالانضمامِ إلى الحلف.
كلُّ هذه التطوّرات تُثيرُ قلقًا دوليًا كبيرًا. لقد لاحَظَ المؤرّخُ الأميركي “ويليام لانجر” مُنذُ فترةٍ طويلة أنَّ التحرُّكاتَ السريعة نحوَ تَشكيلِ تحالفاتٍ وتوطيدها غالبًا ما تَسبقُ اندلاعَ الحروبِ الكبرى. وهي تُمثِّلُ “بوالصَ تأمين”، حيث تسعى الدولُ إلى تأمينِ المَوارِد وتَنظيمِ علاقاتها الديبلوماسية في حالةِ الصراع. علاوةً على ذلك، من الثابت لدى خبراء العلاقات الدولية أنَّ التحالُفاتَ شرطٌ ضروريٌ لاندلاعِ حروبٍ مُتَعَدِّدةِ الأطراف ولتتحوّل الحروبُ الثُنائية المحدودة إقليميًا، مثل الحرب الروسية-الأوكرانية أو حرب إسرائيل مع “حماس” و”حزب الله”، إلى حرائق كُبرى مُتَعَدّدة الأطراف.
لن يكونَ من الخَطَإِ أن نَعقُدَ مُقارناتٍ مع الوضع الديبلوماسي في أوروبا عشية الحرب العالمية الأولى، عندما أكملت فرنسا تحالُفها مع روسيا من خلال التوقيع على اتفاق، ووفاقًا مع بريطانيا. ثم وقفت كتلة “الوفاق الثلاثي” الناتجة في مواجهةِ التحالف الثلاثي المُكَوَّن من ألمانيا الإمبراطورية وإيطاليا والإمبراطورية النمساوية-المجرية. وبالمثل، شهدَت عشيةُ الحرب العالمية الثانية التوقيعَ على ميثاقِ عدمِ اعتداءٍ نازيٍّ-سوفياتي، وميثاقِ دفاعٍ بين بريطانيا وبولندا، وميثاقِ المحوَر بين ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية والاتفاق الثلاثي اللاحق الذي شملهما مع اليابان، فضلًا عن اتفاقِ التأكيدِ على الروابط الوثيقة بين فرنسا وبريطانيا.
لا شكَّ أنَّ هناكَ حُجَجًا تُشيرُ إلى وَضعٍ أقل خطورة. لكن هذه الحُجج المُضادة لها عيوبٌ تَحُدُّ من قُدرَتِها على الإقناع.
تُشيرُ إحداها إلى استقرارِ عالمِ الحرب الباردة، وتُسَلِّطُ الضوءَ على الكيفية التي استخدمت بها كتلتا التحالف المُتنافستان–حلف “وارسو” بقيادة السوفيات من جهة، وحلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى– الرَدعَ العسكري ضدّ بعضهما البعض حيثُ فَرضَ سلامًا باردًا في نهاية المطاف. مع ذلك، فإنَّ هذه الحُجّةَ المُضادة لا تبعثُ على الطمأنينة، لأنه من الصعب للغاية معرفة ما إذا كان الرَدعُ ناجحًا ومتى. علاوةً، فحتّى لو كانَ الرَدعُ صحيحًا وناجحًا خلال الحرب الباردة، فإنَّ مثلَ هذه المُقارنات لا قيمةَ لها اليوم. إنَّ النظامَ العالمي راهنًا يُشبِهُ إلى حدٍّ كبير التعدّدية القطبية التي كانت قائمة قبل الحرب العالمية الأولى، حيث تتنافسُ الولايات المتحدة وروسيا والصين على النفوذ والسيطرة في مناطقها وعلى مستوى العالم، أكثر من التعدّدية القطبية الواضحة التي كانت موجودة خلال الحرب الباردة.
أمّا الحُجّة المُضادة الثانية فتُشيرُ إلى الضعفِ الظاهري للاتفاقِ بين كوريا الشمالية وروسيا. استنادًا إلى النصِّ المُعلَن، فإنَّ البندَ الرئيس للصفقة غامضٌ للغاية، حيث ينصُّ على أنّهُ إذا تعرَّضَ أحدُ البلدَين المُوَقِّعَين للغزو أو كان في “حالة حرب”، فإنَّ الطرفَ الآخر “سوف يستخدمُ جميعَ الوسائل المُتاحة لتقديم المساعدة العسكرية وغيرها” بطريقةٍ تتفِقُ مع “قوانين كل دولة”. لكنَّ الغموضَ يَنسَجِمُ مع كيفية كتابةِ مُعاهدات التحالفات، بما فيها نصّ معاهدة دول “الناتو” الذي يقومُ عليه الحلف.
وتؤكّدُ حُجّةٌ مُضادة ثالثة أنّهُ على الرُغمِ من بعضِ الادِّعاءات الذي يقولُ عَكسَ ذلك، فإنَّ روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية لم تتوحَّد بعد في “محور الاستبداد”. وبعيدًا من الالتزامِ باتفاقٍ شاملٍ مُتَعَدِّدِ الأطراف أشبه بحلف شمال الأطلسي، فإنّها مُرتبطةٌ من خلالِ سلسلةٍ من الترتيباتِ الثُنائية التي تتمحوَرُ حول روسيا. علاوةً على ذلك، ليسَ من المضمونِ على الإطلاق أن تُوَقِّعَ روسيا وإيران على اتفاقٍ في نهايةِ المطاف.
لكنَّ التطوّراتَ حتى الآن تُظهِرُ أنَّ الصين وكوريا الشمالية وإيران على استعدادٍ للوقوفِ إلى جانبِ الدولة التي سعت القوى الغربية إلى جعلها منبوذةً منذ الغزو الشامل لأوكرانيا في العام 2022. وعلى الرُغمِ من أنها قد لا تُشكّلُ “محور الاستبداد”، فقد أوضحت الدول الأربع عدم رضاها عن النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة وحدها. وعلى أقلِّ تقدير، فإنَّ هذه التطورات الأخيرة هي دليلٌ على الاتجاه العالمي المُتسارِع المُتَمَثِّل في الاستقطاب و”اختيارِ أحد الجانبين” من باقي دولِ العالم.
الحُجّةُ المُضادة الأخيرة ربما تقلبُ المُقارنات مع الفترةِ التي سبقت الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية رأسًا على عقب، بحجّةِ أنَّ توطيدَ التحالفات يحدثُ في عالمٍ يعيشُ حالةَ حربٍ بالفعل، وليس عشية الحرب. بعبارةٍ أُخرى، بدلًا من أن يكونَ هناك نذيرٌ لفظائع آتية، فإنَّ القوى الكبرى تَتَّخِذُ هذه الخطوات ردًّا على الفظائع التي بدأت تتكشّفُ فعليًا.
لكن يتعيَّنُ علينا أن نتذكّرَ أنَّ الحروبَ المُتَعَدّدة الأطراف لا تحدثُ من تلقاءِ نفسها. بدأت كلٌّ من الحربَين العالميتين الأولى والثانية عندما تحوَّلت سلسلةٌ من الصراعات الإقليمية الأصغر في نهاية المطاف إلى حروبٍ كبرى، وقد سهّلت علاقاتُ التحالف التي أقامتها الدول هذا التحوّل.
لا شكَّ أنَّ حلفَ شمال الأطلسي أصبح راهنًا أكثر أهمية من أيِّ وقتٍ مضى. ويُمكِنُ للمرءِ أن يُعمّمَ هذا الادعاء ليقول إنَّ أحدَ أقدمِ أشكالِ الديبلوماسية المُتمثّل ب”سياسة التحالف”، لا يزالُ ذا أهميةٍ اليوم، وربما أكثر من أيِّ وقتٍ مضى منذ نهاية الحرب الباردة، أو حتى منذ الحرب العالمية الثانية. لكن من غيرِ المؤكَّد كيف ستُشَكِّلُ هذه التحالفات الأحداث المقبلة بالضبط. وهذا أمرٌ مثيرٌ للقلق بالفعل.