سياسةُ إسرائيل تجاهَ أوكرانيا “تُصنَعُ في سوريا”! | بقلم غابي طبراني
بدأت طائراتُ الـ”كاميكازي” الإيرانية قصفَ المدن والبنية التحتية الكهربائية الأوكرانية في الشهر الماضي. بعدما فشلت روسيا حتّى في تحقيق أهدافها المُصَغَّرة المُتَمَثِّلة في غزو الأراضي في جنوب وشرق أوكرانيا، عادت إلى تكتيكها الافتراضي: إرهابُ السكّان المدنيين، على أمَلِ كَسرِ إرادةِ الخصم في المقاومة.
دَفَعَ اعتمادُ روسيا على الطائرات الإيرانية المُسَيَّرة التي حصلت عليها خلال الحرب، وما تردّدَ عن شرائها صواريخ باليستية إيرانية، المسؤولين الأوكرانيين إلى دعوة إسرائيل مرّةً أخرى لتزويد أوكرانيا بالدعم العسكري، وخصوصًا أنظمة دفاعٍ جوي. وقاومت إسرائيل مثل هذه الدعوات منذ بدء الغزو الروسي. الآن، حتى عندما تواجه فرصةً واضحةً لمواجهة النفوذ الإيراني وتلبية طلبات إدارة بايدن، تُفَضّل القيادةُ الإسرائيلية الحفاظَ على حيادها في الحرب في أوكرانيا.
أثارت عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة بعد الانتخابات الإسرائيلية قبل ثلاثة أسابيع تقريبًا التساؤل عمّا إذا كان سيُعيد النظر في هذا النهج. لكن من غير المُرَجَّح أن يفعلَ ذلك، لسببٍ بسيط: تخشى إسرائيل من أن يؤدي التحالف ضد روسيا في أوكرانيا إلى تقييد حرّيتها في العمل ضد القوات الإيرانية ووكلائها في سوريا، حيث تُهَيمِنُ روسيا على المجال الجوي.
حافظت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على مدى العقدين الماضيين على علاقاتٍ ودّية مع الكرملين، فيما تعافت روسيا من الانهيار الاقتصادي في التسعينيات الفائتة وبدأت إعادة الانخراط في الشرق الأوسط. على مدى العقد الفائت، إنتقدَ قادة اليمين الإسرائيلي بشكلٍ روتيني الاتحاد الأوروبي والإدارات الرئاسية الأميركية المُتعاقبة لانتقاداتهما لسلوك إسرائيل في الأراضي المحتلة ودعمهما لمنظمات حقوق الإنسان في إسرائيل وفلسطين. لكن خلال هذا الوقت، غالبًا ما غضّت إسرائيل الطرف عن الكرملين لبيعه أنظمة أسلحة مُتَطَوِّرة لإيران، والتي قامت طهران بنقل بعضها إلى “حزب الله” في لبنان، والتي استخدمها لاحقًا لقتل جنودٍ إسرائيليين. كما تجنّبت إسرائيل تدهور العلاقات مع موسكو بعد أن التقى مسؤولون روس قادة “حماس” و”الجهاد الإسلامي في فلسطين”.
وبدلًا من ذلك، حاولت إسرائيل من وراء الكواليس الضغط لتغيير القرارات الروسية، ولكن بدون جدوى في كثيرٍ من الأحيان. من المُحتَمَل أن يكون هذا النهجُ التصالحي نابعًا من أن إسرائيل ليس لديها “لوبي” مُؤثّر في روسيا يمكن أن تستخدمه للضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأخذ مصالحها في الاعتبار. وقد يكون ذلك نابعًا أيضًا من حقيقة أن موسكو لا تسعى إلى التدخّل في السياسة الداخلية الإسرائيلية، مُقارنَةً بالقوى الغربية التي يُنظَرُ إليها في إسرائيل على أنها تُفضّلُ الأحزاب الوسطية الأكثر ليبرالية في البلاد.
بعد التدخّل الروسي المباشر في الحرب الأهلية السورية في أيلول (سبتمبر) 2015، أصبح ضمانُ المصالح الإسرائيلية هناك عاملًا مركزيًا مؤثِّرًا في موقف إسرائيل تجاه هذا الصراع. في البداية، بعدما بدأت روسيا تنفيذ غاراتٍ جوية في سوريا، رحّبَ الكثيرون في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بالتدخّل. كان الإعتقادُ أنه من خلال تزويد نظام الرئيس السوري بشار الأسد ببديلٍ من الدعم الإيراني الذي أصبحت دمشق تعتمد عليه، فإن التدخّل الروسي سيؤدي في النهاية إلى تقييد حرية إيران في العمل في سوريا وإبعاد النظام السوري عن اعتماده على إيران وانحيازه إلى “محور المقاومة” بقيادة طهران.
ولكن، لم يتحقّق هذا الأمل أبدًا، حيث لم يكن لدى نظام الأسد أيّ نية لقطع العلاقات مع حليفه الإيراني ووكلائه. بدلًا من ذلك، سعت دمشق إلى استغلال المنافسة بين إيران وروسيا من أجل النفوذ في الدولة التي مزّقتها الحرب من أجل انتزاع أكبر قدرٍ من المساعدة من كلا الجانبين. في حين أن هذه المنافسة أدّت في النهاية إلى الحدّ من النفوذ الاقتصادي والعسكري لإيران في سوريا، فإن الوعود التي قدّمتها موسكو لإسرائيل بمنع وجود القوات الموالية لإيران في جنوب سوريا لم تتحقّق. وبحسب تصاريح خبراء عسكريين ومدنيين يعملون في الملف السوري في الدولة العبرية، فإن الإجراءات، أيًّا كانت، التي تتخذها روسيا لمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا هي مدفوعة فقط بمصالحها الخاصة. في المقابل، لم تُظهِر موسكو أيَّ رغبةٍ في حماية مصالح إسرائيل هناك.
للإنصاف، إن قدرة روسيا على ضمان حتّى مصالحها الخاصة في سوريا محدودة للغاية. في مناسباتٍ عدة، قامت المخابرات السورية وقوات “حزب الله” المنتشرة في سوريا باعتقال مُتمرّدين سابقين غيّروا ولاءهم لروسيا، مثل عناصر جيش التوحيد السابق في شمال حمص، وكذلك أعضاء الفرقة الثامنة من الفيلق الخامس من الجيش السوري، الذي أسّسته روسيا ويضم في الغالب مُتَمَرِّدي شباب السنّة السابقين من شرق درعا.
مع ذلك، منحت روسيا الجيش الإسرائيلي حرّية العمل لقصفِ أهدافٍ إيرانية في سوريا. إبتداءً من العام 2012، قبل تورّط روسيا في الحرب الأهلية، بدأت إسرائيل ضربَ أهدافٍ مُرتبطة بإيران في سوريا بشكلٍ مُتكرّر، بما في ذلك شحنات الأسلحة من إيران إلى “حزب الله” التي كانت تمرُّ عبر سوريا، فضلًا عن أهدافٍ مُرتَبطة ببرنامج الأسلحة الكيماوية السوري غير القانوني. بمجرّد أن هيمنت روسيا على الأجواء السورية بعد تدخلها المباشر في الحرب، أنشأت تل أبيب وموسكو آلية تهدف إلى ضمان ألّا تُعرقِلُ الطائرات الروسية وبطاريات الدفاع الجوي التي نشرتها موسكو في سوريا الغارات الإسرائيلية.
في الواقع، كما كشف الصحافي يوسي ميلمان، وفقًا لصفقة أُبرِمَت بين الجانبين بعد أن قامت روسيا بنشرِ أنظمةِ دفاعٍ جوي مُتطورة من طراز “أس-300 و”أس-400” في سوريا، فإن على إسرائيل إبلاغ القيادة الروسية في سوريا بِنِيَّتِها لتنفيذ غارات جوية. عندها يقوم الضباط الروس بإيقاف تشغيل هذه الأنظمة المتقدمة، تاركين إسرائيل للتعامل فقط مع أنظمة الحقبة السوفياتية التي يعمل بها الجيش السوري بمفرده.
تُفسِّرُ هذه الترتيبات لماذا كانت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية هي الفاعل الرئيس الذي دفع القيادة الإسرائيلية لتجنّب تقديم أي مساعدة عسكرية لأوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي. يبدو أن قيادة الجيش الإسرائيلي مُصِرّة على التمتّع بحرية كاملة للعمل في سماء سوريا، مع إعطاء الأولوية لسلامة طياريها على أيِّ شيء آخر.
في حين أن هذا المَوقِفَ مَفهومٌ بالنسبة إلى أيِّ مؤسسة عسكرية، فإن دورَ القيادة السياسية الإسرائيلية هو موازنة أولويات الجيش الإسرائيلي مع المصالح الأخرى. إن أنظمة الدفاع الجوي الروسية المُتقدّمة يصعب منافستها، وقد تدرب الطيارون الإسرائيليون على كيفية تدميرها كجُزءٍ من التدريبات مُتعدّدة الجنسيات في اليونان في الأعوام 2015 و 2018 و 2022. وغالبًا ما تضرب إسرائيل أيضًا أهدافًا في سوريا بذخائر مُعادية تُطلقها طائرات تعمل خارج المجال الجوي السوري – من لبنان، على سبيل المثال. أخيرًا، لا تعمل بطاريات “أس-300″ و”أس-400” في سوريا كجُزءٍ من مظلة دفاع جوي على مستوى البلاد، ولكنها مُجرّد جُزءٍ من خليطٍ من الأنظمة، معظمها قديم ويعمل بواسطة جنود سوريين غير مُدَرَّبين تدريبًا جيدًا. هذه الثغرات في التغطية تسمح لإسرائيل بضرب أهدافٍ عبر مناطق سيطرة النظام.
منذ بدء الغزو الروسي في شباط (فبراير) 2022، طالب المسؤولون الأوكرانيون علنًا، كما حثَّ المسؤولون الأميركيون بشكل خاص، إسرائيل على تقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا. وأدّى تحوّل روسيا في تشرين الأول (أكتوبر) من الحرب البرية التقليدية إلى إرهاب المدنيين المقيمين في المدن الأوكرانية الرئيسة البعيدة عن الخطوط الأمامية، مع استخدام الطائرات الإيرانية المسيّرة للقيام بذلك، إلى تجدّد هذه الدعوات، ودفع المسؤولين الأميركيين إلى زيادة الضغط على إسرائيل لتوفير أنظمة دفاع جوي وأنظمة عسكرية أخرى إلى أوكرانيا.
لكن عودة نتنياهو كرئيسٍ للوزراء بعد الانتخابات قبل ثلاثة أسابيع تقريبًا تزيد من احتمالية استمرار إسرائيل في سياستها الحالية. على الرُغم من أسلوبه التحريضي والمُثير للانقسام، فإن نتنياهو محافظ “صغير” وسياسي حذر ونادرًا ما يتبنّى تغييرات مفاجئة في السياسة. كما إنّه أقلّ مرونة أمام الضغط الأميركي، لا سيما من إدارةٍ رئاسية ديموقراطية، بعد أن انحاز بوضوح إلى الحزب الجمهوري في واشنطن. بالإضافة إلى ذلك، بينما سعى رئيس الوزراء المؤقت يائير لابيد وسلفه، نفتالي بينيت، إلى تقريب إسرائيل من الغرب –الداعم الرئيس لأوكرانيا– أقام نتنياهو علاقات مع زملائه الأقوياء والشعبويين اليمينيين مثل فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
أخيرًا، لا يوجدُ ضغطٌ علني على القيادة الإسرائيلية لتقديمِ أيِّ مساعدة لأوكرانيا. 21 في المئة فقط من الإسرائيليين، وفقًا لاستطلاعٍ حديث، يؤيدون توفير أسلحة دفاعية لأوكرانيا، بينما يُعارض 41 في المئة حتى هذه الخطوة. لا تحتل القضية مكانة بارزة في الخطاب العام الإسرائيلي ولم تكن قضية في الانتخابات الأخيرة، وهي الخامسة في إسرائيل خلال ثلاث سنوات.
طالما أن إسرائيل لا ترى أن تعميقَ التعاون بين الجيش الروسي وإيران يُشكّلُ تهديدًا لأمنها القومي، فمن المرجح أن تظلَّ خارج الحرب في أوكرانيا. يستمتع نتنياهو بالقول لقادة العالم بأنهم لا يفعلون ما يكفي لمواجهة التوسّع الإيراني، ولكن عندما تُمنَحُ الفرصة له لفعل ذلك، يبدو مُصرًّا على إفشالها وعدم استغنامها.