هل يطوي بوتين آخر صفحات نتائج الحرب العالمية الثانية؟ | كتب مسعود أحمد بيت سعيد
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
العالم على عتبة منعطف تاريخي جديد، ومن غير المستبعد أن تتطور الأحداث الجارية إلى منزلقات خطرة، فالقضية أبعد وأعمق من حصرها في رقعة جغرافية مهما كانت أهميتها لأي طرف.
بدأت فصولها الأولى حين مهدت المخابرات الأمريكية طريق السلطة لحلفائها سنة 2014، والتي كانت من أهدافها المباشرة طلب القيادة الأوكرانية الموالية للغرب الانضمام إلى حلف الناتو والذي أنشئ تاريخيًا لمواجهة المعسكر الاشتراكي؛ حيث كانت أوكرانيا جزءًا منه، وقد حال الاعتراض الروسي دون تحقق تلك الرغبة في وضع موسكو تحت مرمى صواريخه وهي التي أكدت مرارًا عدم السماح بنشر قواته في أوكرانيا؛ حيث لا تنفع معه دفاعاتها الجوية بحسب مُعظم الخبراء العسكريين. والقطاع العريض من الرأي العام العالمي يتفهم المخاوف والهواجس الروسية المشروعة والتي استعادت مكانتها المتقدمة على الصعيد الدولي خلال السنوات القليلة الماضية؛ حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية روجت فكرة الغزو وحددت مواعيدها في محاولة لتهيئة مناخات تضع الضمير الإنساني الذي يجنح دومًا للسلم تحت ضغط نفسي مخيف، بحيث يغيب معه جوهر الأسباب وأبعادها الحقيقية. وجاءت الخطوة البوتينية في مكان آخر؛ حيث تم الاعتراف بجمهوريتي دونتسك ولوغانسك وإنزال قوات حفظ الأمن والاستقرار وحماية استقلالهما السياسي، ثم توالت الإجراءات المعروفة والتي تغطيها كل الوسائل الإعلامية ولا يضيف اجترارها شيئًا جديدًا.
سعت أمريكا لاستنهاض حلفائها في كل أرجاء المعمورة من أجل إيجاد تحالف واسع تستند عليه في أية مواجهة محتملة، وأعلنت حزمة عقوبات اقتصادية قاسية وهو تصعيد خطير وتبعاته ثقيلة، بينما لم نسمع استنفارًا موازيًا من موسكو وحلفائها الذين يشكلون ربما ثلثي البشرية وأكبر اقتصادياتها ومعظمهم في صراع مفتوح مع الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك شكوك كبرى في عدم وقوع بعضهم في فخ المغريات الأمريكية، وإذا صدق ما رشح من أخبار حول إمكانية تعويض الغاز الروسي فهي بالطبع تقديرات خاطئة وستكون عواقبها وخيمة؛ حيث سلاح الطاقة من أقوى الأوراق الروسية وإن الحروب الاقتصادية ربما أعنف من الحروب العسكرية.
موسكو محط اهتمام العالم والرئيس فلاديمير بوتين يدير خيوط اللعبة الدولية بحكمة وحنكة سياسية كبيرة، ويمتلك معظم خيوطها ويقف على نجاحه أو فشله مصير البشرية قاطبة.
لقد أظهرت الأزمة الأوكرانية حقائق عدة لا يمكن تجاهلها؛ منها أن روسيا فلاديمير بوتين غير روسيا بوريس يلتسن، وأن استخدام السلاح النووي أمر وارد للدفاع عن الوجود بما يستتبع من نتائج كارثية، وكذلك بناء مداميك نظام دولي جديد على إثر سقوط هيمنة القطب الواحد بدأ يتبلور أكثر من أي وقت مضى.
هل تغيير جغرافية العالم والحروب الاستباقية هي التي ستبنى عليها الوقائع الجديدة والتي ستغير موازين القوى وتفتح على عالم خال من السيطرة الأحادية؟ ربما الادعاءات التاريخية بضم الفروع إلى الأصول طوعًا أو كرهًا ستصبح حقيقة، والمصداقية الروسية التي تقرن الأقوال بالأفعال تفتح شهية ضعفاء الأرض في حليف مؤثوق. لا شك أن الحروب تطحن الأبرياء، لكن تبقى للكرامة والسيادة الوطنية أثمان تدفع وتلك سنن الحروب وأعرافها. لم تكن روسيا دولة استعمارية وقد نبذت الفكرة منذ قيام الثورة البلشفية 1917، وقد قدمت الملايين من أبنائها في الدفاع عن القيم الإنسانية؛ حيث كان لها الدور الأبرز في هزيمة النازية التي اجتاحت أوروبا في ساعات معدودة، وقد جرى هذا في العهد السوفييتي، واليوم العالم كله يراقب ما يدور على الأرض الأوكرانية بين الرفض والتأييد، وهو أمر طبيعي. وإذا كان لا شك في النصر الروسي، فما زال من المبكر جدًا التنبؤ بما ستؤول إليه الأحداث، إذا ما تذكرنا أن الناتو يقوم حاليًا بدعم أعضائه على تخوم روسيا تحوطًا من تكرار مشابه لما يجري في أوكرانيا، على حد قوله، وتفتح الأبواب أمام مئات الآلاف من المرتزقة للقتال ضد روسيا من أجل استنزافها أطول مدة ممكنة، وهو أمر لا يبعث على الاطمئنان.
هل بهذا تطوى صفحة من صفحات نتائج الحرب العالمية الثانية الأكثر ظلمًا وعدوانًا وتفتح أخرى غير معلومة الاتجاه؟ هذه ما ستكشفه الأيام القادمة، وستبقى في كل الأحوال أفضل للبشرية التي تعاني من توحش الرأسمالية الغربية وشعاراتها المزيفة.