سوريا إلى أين بَعدَ سقوطِ الأسد؟ | بقلم غابي طبراني
قد يكونُ الواقِعُ الجديد الذي يَتَشَكّلُ في سوريا ما زا في مهده، إلّا أنَّ هناكَ شيئًا واحدًا واضحٌ – إنها لحظةٌ مصيرية يُخيِّمُ عليها عدم اليقين الشديد بالنسبة إلى شعبِ البلاد ومنطقة الشرق الأوسط الأوسع. إنَّ انهيارَ ستة عقود من حُكم حزب “البعث” يَضُخُّ المزيدَ من التقلُّباتِ في المشرق العربي غير المُستَقِرّ أصلًا بسببِ الصراعات المُستمرّة.
إنَّ السوريين يستوعبون هذه اللحظة التاريخية بينما يطرحُ الكثيرون منهم أسئلةً عدّة أثارتها هذه النقطة التحوُّلية. لقد قوبلت نهاية نظام بشار الأسد بموجةٍ عارمة من مشاعر الفرح والسعادة التي اجتاحت السوريين في الداخل كما في مجتمعات اللاجئين والمهاجرين في جميع أنحاء العالم. وهذا أمرٌ مفهوم؛ فقد عُومِلَ الكثير من السوريين بشكلٍ قمعي، ووحشي، وسيّئ، وغير عادل من قبل أجهزة الأمن التابعة لذلك النظام، حيث أُعدِمَ الكثيرون من دون محاكمة، وأُجبِرَ الملايين على الفرار إلى المنفى أو سُجنوا وسط تقارير لا حصرَ لها عن المُعاملة اللاإنسانية.
آخرون كثيرون في سوريا يشعرون بالقلق إزاء المستقبل، وهم على حق في ذلك. فمن لبنان إلى العراق ومن اليمن إلى ليبيا، أثبتت الميليشيات المسلحة مرارًا وتكرارًا أنها قادرةٌ في بعض الأحيان على تحقيقِ انتصاراتٍ عسكرية، لكنها أثبتت أيضًا أنها تَحكُمُ بشكلٍ سيّئ في كلِّ الأحيان. وفي حديثه عن سوريا في “منتدى المنامة” الذي نظمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية قبل يومين، كان الدكتور أنور قرقاش، المستشار الديبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، على حق عندما قال: “عندما تُترَكُ المشاكلُ بدون حلٍّ، فإنها تزدادُ سوءًا … لقد أظهرت لنا الأحداث الماضية مدى أهمية دعم الدولة الوطنية”.
إنَّ الدولةَ الوطنية في سوريا تتغيّرُ بسرعة، وهناكَ مراكز قوّة جديدة في هذا البلد المُمَزّق. والآن تواجه إحدى جماعات المعارضة الرئيسة التي أجبرت الأسد على الرحيل –”هيئة تحرير الشام”- اختبارًا حاسمًا. فهي تدّعي أنها تُقاتلُ من أجل سوريا عادلة وشاملة للجميع، ولكن جذورها في التطرّف السياسي والديني لن تُطمئِنَ سوى قِلّةٍ من الناس، وخصوصًا أولئك الذين اختبروا حكمها في محافظة إدلب، كما أولئك الذين هم أصلًا حذرين من السمعة المُخيفة المُرتبطة ببعض الفصائل المسلّحة في ائتلاف المعارضة.
نحنُ مع القائلين أنَّ الدولة السورية لا بُدَّ وأن تكونَ إنسانية وشاملة ومُوَحَّدة وقوية. فلا يُمكنُ لأمّةٍ أن تستمرَّ كمجموعةٍ من المقاطعات الخاضعة لسيطرةِ ميليشياتٍ مختلفة وداعميها الأجانب. ونظرًا لهذا الواقع، فإنَّ من الواجب على أولئك الذين هم الآن على أعتاب السلطة أن يكونوا التغييرَ الذي يزعمون أنهم يمثّلونه ــ وهذا يعني تجاوز مجرّد “إعادة صياغة العلامة التجارية” وإثبات قدرتهم على أن يكونوا مسؤولين عادلين إداريين وشفّافين. وهناكَ دلائل تشيرُ إلى أنَّ هذا قد يكون مُمكنًا.
إنتشرَ مقطعُ فيديو لرئيس الوزراء السوري محمد غازي الجلالي وهو يغادر منزله في دمشق مع مقاتلي المعارضة في ما قد يكون أول لقاء بين زعماء المعارضة وما تبقّى من الحكومة. وكانت المعارضة أعلنت بأنَّ الجلالي، الذي يُعتبر تكنوقراطيًا، قد يلعب دورًا إشرافيًا مؤقتًا.
وإذا كان بوسع زعماء المعارضة أن يعملوا بشكلٍ بنّاء مع المؤسّسات المُتبقّية في البلاد، وبالتالي تجنُّب الأخطاء التي شهدناها بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في العام 2003 ــ عندما تم تفكيك الدولة والجيش بالكامل، وتَرَكَ وراءه فراغًا سياسيًا خطيرًاــ فإنَّ سوريا الأفضل ربما تكون مُمكِنة. لكن هناك قائمة هائلة من المشاكل والتهديدات المُحتَملة التي تحتاج إلى معالجة.
إنَّ الجروحَ التي تعودُ إلى عقودٍ في المجتمع السوري تحتاجُ إلى الشفاء. فالاقتصادُ السوري مُحطَّم، وعملته منخفضة القيمة، والبطالة منتشرة بشكل كبير، والنازحون بالملايين، والبلاد مُهدَّمة. كما ازدهرت تجارة المخدرات غير المشروعة لسنوات عديدة. ويعتمد العديد من السوريين على المساعدات للبقاء على قيد الحياة، ويهرب الآلاف عبر الحدود إلى لبنان الذي تعرّض لهجوم وغزو من قبل إسرائيل. ومن المؤكد أن التحرّكات الإسرائيلية المحتملة في سوريا ستكون كارثية، وقد كان أولها إلغاء إتفاقية الهدنة لعام 1974 واستيلاؤها على المنطقة العازلة بما فيها جبل الشيخ. بالإضافة إلى ذلك، استمع مجلس الأمن الدولي قبل أربعة أيام إلى تقريرٍ يفيد بأن تدميرَ سوريا أو تحويلها للمواد الكيميائية التي تملكها لا يزال غير مؤكّد.
إنَّ التغييرَ المفاجئ في سوريا آتٍ ولا بُدَّ من أخذه في الحسبان. إنَّ تجدُّدَ الحرب بين فصائل المعارضة وقوات سوريا الديموقراطية (قسد) التي يقودها الأكراد في شمال شرق سوريا، أو إقامة إدارة شبه متطرّفة في دمشق، أو الانتقام العشوائي ضد الموالين للنظام السوري المُنهار، كلّها إذا حدثت ستكون كارثية بالنسبة إلى سوريا. ورُغمَ أنَّ الشعب السوري هو الذي يجب أن يُقرّرَ مستقبله، فإنَّ المجتمعَ الدولي يجب أن يُعيدَ النظر في سياسة الانسحاب التي يتّبعها وأن يكونَ مستعدًّا للإنخراط لدعم جهود السلام وإعادة الإعمار.
يجب أن يكونَ هناك أملٌ في أن يتمكّن السوريون من أخذ مصيرهم بأيديهم مرة أخرى. ربما تكون اللحظة الحالية مليئة بعدم اليقين، ولكن سرعان ما سيأتي الوقت للبدء في العمل الجاد المتمثّل في استعادة سوريا إلى مكانتها اللائقة ومكانها الصحيح كجُزءٍ سلمي ومستقر ولا غنى عنه في العالم العربي.