قراءة أولية في هزيمة “العدالة والتنمية” | كتب منتصر حمادة
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
في الانتخابات التشريعية لـ7 تشرين الأول/أكتوبر 2016، حصل حزب العدالة والتنمية على 125 مقعدًا برلمانيًا، وفي انتخابات 8 أيلول/سبتمبر 2021، حصل الحزب نفسه، وهو الذي يقود الحكومة المنتهية ولايتها، على 12 مقعدًا فقط.
بل وصل الأمر إلى أن الأمين العام للحزب، الذي كان يفوز في أي دائرة انتخابية، وأحيانًا يكون سببا وراء فوز نائبه في الدائرة الانتخابية ذاتها، كما جرى في انتخابات 2016، فشل في الظفر بمقعد برلماني، مع أنه رئيس حكومة.
ما الذي جرى حتى انتقل الحزب المصنف في خانة “الإسلام السياسي” أو الإسلاموية، من مقام 2016 والمزايدة على الجميع بتلك النتائج، نحو نتائج هذه الانتخابات؟ بل إنه في الانتخابات السابقة، وصلت المزايدة إلى درجة أن عبد الإله بنكيران، الأمين العام السابق للحزب، وهو رئيس الحكومة السابق أيضًا، أعلن في ندوة بمقر الحزب، عن فوز حزبه بالاستحقاق التشريعي، مع أنه كان منتظرًا من الجميع، أن تعلن وزارة الداخلية عن ذلك، على غرار ما جرى في انتخابات أمس، وليس أمين عام أي حزب سياسي، بدليل أن الأمين العام للحزب الفائز في استحقاق أمس، لم يصرح بفوزه قط قبل الخروج الرسمي لوزير الداخلية، وهذا هو العرف الجاري به العمل في الساحة المغربية، لولا إن السياق الإقليمي حينها، وصلت تداعياته محليًا، إلى تلك الدرجة.
نحن نذهب إلى ضرورة استحضار مجموعة من الأسباب المركبة التي أفضت إلى هذه المستجدات، منها الأسباب الخاصة باقي الأحزاب السياسية التي استفادت من أخطاء الماضي، ومنها الأسباب الخاصة بالحزب الإسلامي المعني.
في الشق الخاص بالأحزاب المنافسة للحزب الإسلامي، وإضافة إلى أهمية دور الأعيان، استقطاب النخب الشبابية والكفاءات، نتوقف عند مجالين اثنين، يؤكدان هذه المراجعات الحزبية في الأداء والعمل الميداني:
ــ يتعلق المجال الأول بالانفتاح على العالم الرقمي بشكل مغاير كليًا مقارنة مع تواضع حضور الأحزاب ذاتها في انتخابات 2016، باستثناء الحضور الرقمي لحزب الأصالة والمعاصرة، والذي كان في أولى محطات البداية، ولكن لم يكن قادرًا على منافسة الحضور الرقمي للإسلاميين، الذين كانوا متقدمين كثيرًا في هذا المجال، حتى إن ظاهرة “الكتائب الإلكترونية”، والتي سوف تصبح متداولة أكثر في مرحلة لاحقة، كانت أسباب الكشف عنها للرأي العام، مرتبطة بما كانت تقوم به الإسلاموية للمغربية، في نسختها السياسية على الخصوص، مع المشروع الإخواني.
كان الحضور الحزبي الرقمي مختلفًا في استحقاقات 8 أيلول/سبتمبر، بشكل نافس عمليًا الحضور الرقمي للحزب الإسلامي، وفي مقدمة ذلك، الحضور الرقمي لحزب التجمع الوطني للأحرار، كما عاينا ذلك من خلال عدة أمثلة، كانت غائبة كليًا في انتخابات 2016، والأمر نفسه مع باقي الأحزاب، وإن بدرجات أقل، إلا أنها كانت حاضرة رقميًا في نهاية المطاف، وبالتالي، أخذت بعين الاعتبار التطبيقات غير السوية لقاعدة “الطبيعة الرقمية لا تقبل الفراغ”، وهو الفراغ الرقمي الذي قام الحزب الإسلامي باستغلاله أيما استغلال في الانتخابات السابقة.
ــ يتعلق المجال الثاني بالعمل الميداني المستمر، سواء مع منظمات المجتمع المدني، أو في الحضور الإعلامي، أو في التواصل مع المواطنين، أو في الرهان على ما يٌشبه جولات انتخابية سابقة لأوانها، في سياق استباق اللحظة الانتخابية، والنموذج هنا مع الجولات التي قامت بها قيادات حزب التجمع الوطني للأحرار، محليًا وخارجيًا، بشكل لا تقم به باقي الأحزاب السياسية، وبالتالي، أيًا كانت تعقيدات الأسباب المركبة التي أفضت إلى فوز الحزب بتشريعيات 2021، فإنه لا يمكن صرف النظر عن دور هذه الجولات ودور ذلك الحضور الرقمي، ضمن محددات أخرى.
آن الأوان للتوقف عند الأسباب الخاصة بالحزب المعني هنا، أي حزب “العدالة والتنمية“.
هناك تراكم لعدة أسباب أفضت إلى ما وصل إليه، ومن ذلك، الخلافات التنظيمية داخل الحزب؛ تأثير اطلاع الرأي العام على بعض القضايا الأخلاقية المرتبطة بالمشروع؛ التباين بين القول والممارسة في التعامل مع بعض القضايا المحلية والخارجية؛ سوء تدبير ثنائية الولاء والكفاءة في معرض منح المناصب؛ الازدواجية في الفعل بين ممارسة العمل الحكومي على أرض الواقع؛ وممارسة بعض المعارضة للعمل الحكومي في آن؛ ضمن أسباب أخرى، وتفصيل ذلك كالتالي:
ــ نبدأ بالخلافات التنظيمية، والتي اتضحت بشكل كبير في محطة تشرين الأول/أكتوبر 2016، وبخاصة بعد تعيين سعد الدين العثماني خلفًا لعبد الإله بنكيران من طرف الملك محمد السادس من أجل عقد مشاورات بهدف تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات، وبرزت أيضًا في محطة المؤتمر الوطني للحزب، إلى درجة الحديث عن “تيار التمديد لعبد الإله بنكيران”، أمينًا عامًا للحزب، ومجموعة محطات كشفت عن وجود صراعات بين قياديي وقواعد الحزب، ولا يمكن لمثل هذه الخلافات التنظيمية أو تذهب دون ترك بعض الآثار على الإشعاع التنظيمي للحزب، وعلى سمعته وشعبيته.
ــ نأتي لموضوع القضايا الأخلاقية التي اطلع على بعضها الرأي العام، والتي يبدو أن قيادة المشروع، في شقيه الدعوي (حركة “التوحيد والإصلاح”) والسياسي (حزب “العدالة والتنمية”) لم تنتبه إلى تبعاتها على شعبية المشروع، وبالتالي تأثير تلك القضايا على ما هو مرتقب لاحقًا في الاستحقاق الانتخابي، بل وصل الأمر عند القيادة نفسها وعند بعض المعلقين، بمن فيهم أقلام “يسار الإخوان”، إلى التنبيه والتحذير من أن الكشف عن هذه القضايا يساهم في تغذية المظلومية التي يوظفها الحزب، وبالتالي تساهم في تغذية شعبية الحزب، والحال أن الأمر كان خلاف ذلك عند أتباع الإسلاموية وعند الرأي العام.
رُب معترض أن القضايا الأخلاقية لا توجد عند المشروع المعني هنا، أي حركة “التوحيد والإصلاح” وحزب “العدالة والتنمية” وإنما نجدها حتى في أحزاب أخرى، وهذا اعتراض وجيه طبعًا، ولكن أصحاب هذا الاعتراض لا يذهبون بعيدًا في التدقيق، لأنه عليهم التذكير أو التنبيه إلى أنه بالنسبة للقضايا الأخلاقية الخاصة بأحزاب سياسية أخرى، هناك فرق جوهري عنوانه أن أغلب هذه الأحزاب لا تتحدث أو تروج الخطاب الطهراني والمثالي والأخلاقي والديني في معرض استقطاب الأتباع والتأثير على الرأي العام، وهذا فارق مفصلي، يغيب حتى عن الإسلاميين أنفسهم.
ــ بخصوص التباين بين القول والممارسة في التعامل مع بعض القضايا المحلية والخارجية، فهذه معضلة بنيوية عايناها مع حزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” في فترة “التناوب التوافق”، وكانت إحدى أسباب تراجع شعبيته لاحقًا، وها هي تتكرر مع تجربة حزب “العدالة والتنمية”، مع فارق أن الحزب المعني، ينهل مما يُسمى “المرجعية الإسلامية”، والتذكير في آن، أن هذه ظاهرة سائدة في أغلب التجارب الديمقراطية، لأن انتقال مشروع إيديولوجي ما من مقام المعارضة إلى مقام تدبير الحكم، أو المساهمة في تدبير الحكم وتدبير الشأن العام، لا يُفيد بالضرورة أنه سيُطبق حرفيًا كل الشعارات التي كان يرفعها في مرحلة المعارضة، وهذا ما جرى مع إسلاميي “العدالة والتنمية”، من قبيل التناقض بين القول والممارسة في الحديث عن “محاربة الفساد” و”تفعيل الديمقراطية” وشعارات أخرى كانت موجهة للاستهلاك السياسي والانتخابي، دون الحديث عن محطة مفصلية وصل تأثيرها السلبي على صورة الحزب حتى إلى الخارج، وهي محطة تطبيع العلاقات المغربية الإسرائيلية، لأن أمين عام الحزب، كان ضمن طاقم المسؤولين المغاربة الذين وقعوا على اتفاقيات شراكة بين البلدين. [من تناقضات قيادات المشروع هنا، نتوقف عند موقف الداعية والباحث والبرلماني المقرئ أبو زيد الإدريسي، الذي أعلن عن تجميد عضويته على هامش هذا المستجد الخاص بالتطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل، ولكن لم يجد البرلماني نفسه أي حرج لكي يترشح في الاستحقاق الانتخابي الأخير باسم الحزب نفسه، الذي زعم منذ أشهر أنه جمد عضويته فيه، ضمن تناقضات أخرى.
ــ هناك سبب داخلي آخر، ساهم في تأزيم العلاقات التنظيمية للمشروع، وعنوانه سوء تدبير ثنائية الولاء والكفاءة في معرض منح المناصب، وشرح تأثير هذا السبب يتطلب التذكير بإحدى مميزات الحزب، وهي أنه مكون من كتلتين على الأقل: الأولى كتلة إسلامية حركية خالصة، عنوانها حركة “التوحيد والإصلاح” الإخوانية، وهي الكتلة المتحكمة في القرارات والمناصب والامتيازات، وأهل الحزب أو أهل الداخل يمكنهم تأكيد ذلك؛ أما الكتلة الثانية، فمكونة من أعضاء لا علاقة لهم بما يُسمى “المرجعية الإسلامية”، ولكنهم انضموا للحزب تعاطفًا معه، أو رغبة في الاستفادة من صعود أسهم الإسلاموية، أو لاعتقادهم أنهم “الحزب أقل فسادًا” حسب الدعاية الإسلاموية في الكواليس وفي مواقع التواصل الاجتماعي.
والحال أن معضلة توزيع المناصب، في مثل هذه التنظيمات، تخضع لقاعدة حَذر منها عالم الاجتماع اللبناني مصطفى حجازي في كتبه حول سيكولوجية الإنسان العربي: المقهور والمغدور (الكتاب الأول والثاني)، وعنوانها “المناصب لأهل الولاءات وليس لأهل الكفاءات”، وهي القاعدة التي تنطبق أيضًا على المشروع المعني، لولا إن تفعيلها كانت له تبعات على التنظيم، أقلها أنها ساهمت في تغذية الاحتقان، وهذا أحد الأسباب التي تفسر كيف أن نسبة معتبرة من الكتلة الانتخابية القارة للحزب، لم تصوّت عليه، كما لخص ذلك القيادي وعضو الأمانة العامة للحزب، عزيز رباح، عندما اعتبر أنه “لا يجد أي تفسير لنتائج الحزب الكارثية”، معتبرًا أنه “لو احتسبنا فقط الأعضاء والمتعاطفين وأسرهم والأقرباء والأصدقاء والجيران وبعض المقتنعين بالعمل والجهد والنزاهة… لكان الحزب في الرتب الأولى وبامتياز”.
ــ ننهي لائحة الأسباب في الجزئية الخاصة بالتأثير السلبي للقرارات الحكومية التي صدرت عن الحزب باعتباره قائد هذه الحكومة، والحديث عن اختيارات لا شعبية، ساهمت في تقويض القدرة الشرائية للطبقة الوسطى، فالأحرى تأزيم وضعية الطبقات الاجتماعية الهشة.
صحيح أن القرارات الحكومية هنا لا تهم حزب “العدالة والتنمية” وحسب، وإنما تهم باقي الأحزاب السياسية التي تشكل التحالف الحكومي، إلا أنه بالنسبة للرأي العام، عندما يتوجه بالنقد، فإنه يقصد رئيس الحكومة بشكل مباشر، لأنه أمين عام الحزب الذي يقود الحكومة، ولا يتوجه بالنقد إلى أمناء عام باقي الأحزاب السياسية التي تشكل التحالف الحكومي، وشتان ما بين المقامين في النقد.