كنت قد كتبت في مقالي الأخير “العراق: قوة الطائفة في صالح الوطن، ووحدة الوطن في صالح الطائفة“.
وذكرت ما نصه حول دور المرجعية الدينية في النجف الأشرف “ننظر الى منهج مرجعية السيستاني الذي نراه يؤسس لطائفة شيعية متماسكة من خلال دعوته للعدالة والصلاح بين طبقات المجتمع، ومحاربة الفقر والجهل بطريقة تسير وفق خطوات مترابطة لتتكامل مع فعاليات المجتمع الاخرى ” ونوهت الى مَن يرى في هذا المنهج خطورةً عليه لأنه سيؤدي الى عراقٍ مستقر، أي أنَّ هذا المنهج يمثل تهديدًا لمن لا يريد للعراق أن يعود دولةً تؤدي دورها في المنطقة، وقبلها مجتمع يمتلك مقومات العدالة ليسير في اتجاه السلم و تتوفر للمواطن مقومات الامن ومقومات احتياجاته الاخرى وتوفير مقومات الحياة {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى }.
ولهذا أنَّ هذا المنهج بناءٌ لي كعراقي وفهمي للمواطنة وكيف يكون نظامها الاجتماعي والسياسي،بينما يرى الاخرون من أعداء العراق أنه منهج يعرقل مخططاتهم ويشكل خطرًا عليهم،ولهذا جاء عنوان موضوعي أعلاه، لأن النجف هي القلب النابض للعراق، ولأن المكان بالمكين فدور النجف اكتسب اهميةً أُخرى في مرحلة ما بعد 2003.
وقد يرى آخرون أنَّ اتساع النشاط السياسي والمرجعي يقوض ويحد من انتشار واتساع المرجعيات الاخرى ولا طريق الا بالاقصاء.
إنَّ دور النجف لم يكن وليد هذه الفترة فحسب،و إنَّما بدأ ذلك منذ انتقال الشيخ الطوسي (رض) إليها وتأسيس مدرسته فيها،لكن لكل مرحلة ميزةً ولونًا تميزت به يستطيع المؤرخ أن يكتشفها بعد إطلاعه على ظروفها، ويعطي ملامحه من خلال نظرة تحليلة موضوعية، ولهذا ما أذكره الان أو ما ذكرته في مقالات سابقة لا يلغي و لا ينتقص -لا سامح الله-من أدوار المرجعيات التي سبقت مرجعية السيد السيستاني.
وكما قلت المكان بالمكين فالنجف بالمرجعية الاسلامية التي اتخذت من هذه المدينة مقرًا لها بعمقها التاريخي الاسلامي الذي يمتد لقرون من الزمن مستمدةً ذلك من ضريح الامام علي (ع)،الذي اختار مثواه في هذه البقعة المباركة،كما جاء في الروايات التي تناولت سيرته المباركة.
و لايخفى على المتتبع أهمية النجف فلم تعد تحوي مرقد أمير المؤمنين علي بن طالب (ع) فحسب بل أصبحت مركزًا من أهم المراكز الاسلامية،وهي تزاوج بين عمقها التاريخي وأصالتها الاسلامية وبين حاضرها وجغرافيتها لترسم لنا لوحة تاريخية عميقة المعنى ذات اضاءات آنية تبهر عين الناظر لها، فتجعله متحيرا بين البحث في تاريخها ام الاستشراف بحاضرها فقط، و لاشك أن أهميتها ازدادت بشكل كبير بعد التغيير في 2003 لأسباب عديدة، وأهمها وضوح الرؤية لدى مرجعية السيستاني في التعامل مع الاوضاع تحت الاحتلال، ومحاولته رسم ملامح النظام السياسي الجديد في العراق للتخلص من أثار الاحتلال، من خلال إصراره على كتابة دستور جديد بيد أبنائه من العراقيين وإجراء انتخابات برلمانية،ومن ثم تشكيل الحكومة،لترسيخ اولى مبادئ نظام يحكمه أبناء العراق.
وقد سجل المراقبون ما كانت الاحزاب الاسلامية تفعله وكذلك معظم الشخصيات السياسية ومازالت تطلب ان تكون تحت عباءة مرجعية السيستاني، وكذلك التي ترتبط بخط ولاية الفقيه لا ترغب بأن تكون في مخالفة علنية مع توجيهات المرجعية سيما بعد أن أخذت الشرعية في تشكيل فصائلها في الحشد الشعبي.
بعد هذه المقدمة الموجزة عن دور المرجعية في العراق الجديد نعود لتساؤلنا أعلاه مَنْ يريد سقوط النجف !؟.
لنبدأ أولًا بالمنظومة الدولية ولا أُريد هنا أن اذكر دولةً معينةً مع أنَّ المتتبع الحصيف يستطيع أن يقرأ سلوك بريطانيا (العظمى) منذ ثورة العشرين المباركة حتى يومنا هذا مع المرجعية..
وقد وقعت الولايات المتحدة تحت تأثير هذه الرؤية بعد (فشلها) في العراق وإن سنحت لي الفرصة ساشرح معنى الفشل الأميركي في العراق (مع أني نوهت لذلك في مقالات سابقة عام 2007)..
وبالمجمل هناك منظومة عالمية لا تريد للاسلام الأصيل أن يأخذ دوره بل إنَّ منهج الاعتدال والوسطية الذي تتبعه مرجعية السيستاني يكاد يكون أخطر من منهجية ولاية الفقيه ومرجعيتها التي من السهل تصنيفها كعدو!، وبالتالي تضع الحواجز المتعددة لانتشارها.
وقد تبتكر أساليب عديدة لتقويض هذه المرجعية أو إثارة الشكوك والايحاء الى الجماهير الاسلامية أنها تحتوي هذه المرجعية.
ثانيًا:- المنظومة العلمانية
وأعني بها تلك المنظومة التي تعادي كل أشكال الدين من الايمان بخالق واحد للكون الى رفض أن يأخذ الدين مجاله في حياة الانسان الفردية والاجتماعية والسياسية، وتتفرع عنها علمانية أُخرى تجعل من الدين أمرًا شخصيا ويكون أسير دور العبادة فقط، وبالتالي لا تريد للمرجعية دورًا اجتماعيًا قبل الدور السياسي لكي لا تنشد الجماهير إليها ومن ثم تتعلق بالايمان والدين الذي يُراد منه أن يُسجن في أماكن الصلاة العامة.
دين مقولب تحده الكتب الفقهية ولايعدو أن يرفع الاذان ويقرأ القران.
ثالثًا منظومة دينية منافسة تريد أن تأخذ دورها وتجد لنفسها حيزًا في المجتمع العراقي ولا نستطيع إنكار نشاط مثل هذه المنظومة إلا أنها لاتستطيع منافسة نشاط مرجعية السيستاني وبعض من هذه المنظومات تنشط طوليا ً لا عرضيا لكي لا تصطدم معها.
وقد ذكرتها مجازا لان الاخلاق الاسلامية لايمكن لها أن تتصف بسلوك { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين}.
ولكننا نرى في سلوك بعض الاتباع لجهل بالامور الكبرى ما يرسخ وجود رغبة في تقليص أو انهاء دور مرجعية السيستاني.
ومن هذه المنظومة من يرى في ولاية الفقيه الدور الشرعي الذي ينبغي للمسلمين أنْ يتبعوه وتصل المنافسات حد التشكيك بأي دور لمرجعية النجف على المستوى المحلي والمستوى العالمي وقد اشتدت الحملة عند زيارة بابا الفاتيكان للنجف ولقائه بالمرجع السيستاني الذي اوصل رسائله للكل وفي جميع الاتجاهات وقد طرحت في مقالات سابقة تتعلق بالزيارة ما نجح فيه المرجع السيستاني من ايصاله وهو ( توفيق الهي )رفعت اللبس عن الدور الكبير الذي مارسه ويمارسه لخدمة الاسلام والتعريف بنهجه الوسطي،ويمكن للمتتبع أن يراجع هذه السلسلة من المقالات التي حملت عناوين منها “بعد أن أصبحت الزيارة أمرًا واقعًا…” و ” لاتطبيع بوجود مرجعية السيستاني ” وغيرهما من المقالات.
وبالحقيقة قد تكون المنافسة والترويج لاراء مخالفة أمرًا طبيعيا داخل الحوزات العلمية،وداخل المجتمعات وهي نتيجة لجهد انساني يعطي للفكر مساحته المتاحة وغير المتاحة لينطلق في الفضاء ويلتقي مع الافكار الاخرى التي ربما توافقه فتتم عملية الانسجام،أو لا تتواءم معه فيحدث الصدام الفكري الذي يبقي الامر في مجاله المشروع مالم يتحول الى تسقيط والغاء للاخر بعد قتله معنويًا..
وما يهم المواطن العراقي أنْ تنسجم الافكار بما ينفعه على الصعيد الفردي والاجتماعي في متطلباته اليومية لضمان معيشته وأمنه ودينه.
وكما عبرت أدخلت هذه المجموعة في التسلسل مجازًا دون تأكيد على أنها حقيقة من مصاديق الموضوع الذي أتناوله.
لكن هذا لا يخفى أن هناك توجها لجعل مدينة قم بيضة الاسلام وقطب الرحى الذي يدور حوله المسلمون وأنها “أُم القرى”.
لكن هذا الامر يبدو غير متاح في هذه الفترة بوجود مرجعية السيستاني الذي شغلت حركته الاجتماعية والسياسية كل الافاق وانتقلت الى العالمية وما يميزها أنها تسير بخطىً ثابتةً دون ضجيج إعلامي.
وينبغي لمثقفي العراق ورواد المجتمع أن يؤسسوا لفهم المنهج السيستاني لكي نسير نحو مجتمع متصالح مع نفسه،مجتمع يبحث في اولياته الامن للاخر قبل أن يبحث عن أمنه.
وعندما نروج لقيم العدالة والتسامح ونبذ العنف وعدم عسكرته ننتج مجتمعا منتجًا للافكار.
وعلى الطبقة المثقفة الواعية أن تحمي المشروع السيستاني في المجتمع العراقي وتتفاعل معه لتعطيه بعدًا آخر لتكامل الهدف.
قد ما اكتبه يبدو متأخرا نوعًا ما لكنه بداية حل ننطلق منه لبناء مجتمعًا متسامحًا منتجًا.