نحو السلم الاجتماعي في العراق … | بقلم علي الهماشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
مازلنا نفتقر الى عقد اجتماعي يفضي الى بناء نظام اجتماعي متسالم عليه، فلا تجد مرجعية دينية لها السطوة الدينية على كل المجتمع لا لقصور فيها أو تقصير بل لأن مهمتها النُصح وبيان الحُكم الشرعي الذي لا تفرضه بالقوة اطلاقا، كما أنه لا توجد مرجعية فكرية لها السطوة الفكرية أو الثقافية، وهذا الامر ينطبق كذلك على المرجعيات السياسية وعلى بقية فعاليات المجتمع.
ومازالت الفوضى هي المشهد السائد في العراق بالرغم من انتهاء حكم الديكتاتورية الفردية والحزبية منذ 2003، ولم تحكم الدولة بمؤسساتها وأدواتها وحكومتها المشهد.
لقد رأى أرسطو في مهمة الدولة مع الفرد” أنَّ وظيفةَ الدولةِ هي تربية الانسان على الفضيلة، وتهيئة الأسباب ليكونوا فاضلين، و بدون ذلك لا يكون الانسان انسانًا بل وحشًا ضاريًا”1.
ويرى أصحاب نظريات العقد الاجتماعي أن الدولة وسيلة لحماية الفرد وضمان بقائه …
ولا شك أن مفهوم الدولة بتعريفها البسيط يشمل النظام السياسي ويحتوي على الحكومة وقد لا يرى القارئ عندما استرسل في الكتابة أي تفريق بين هذه المفاهيم رغم حرصي على التفريق بينها لأهمية كل منها، ولكنها مفاهيم متداخلة ولا أُريد أن أشرح الاختلافات بينها فهو ليس من ضمن اولوياتي، و هدفي في هذا الجزء من السلسلة (نحو سلم اجتماعي عراقي ) أن أُبين دور النظام السياسي والحكومة في إرساء السلم الاجتماعي أو الإسهام فيه، وهو ما أسعى إليه من خلال سلسلة المقالات في هذا المجال الذي وصلت الى الجزء الرابع فيه …
ولعل التساؤل التالي يكون مفتاحًا لمناقشة هذا الموضوع (هل كان النظام السياسي والحكومات التي جاءت بعد الانتخابات التشريعية تهتم بالانسان والمجتمع ؟).
وقبل الاجابة لابد من تمهيد بسيط بانَّ المادة الاساسية أو العنصر الأهم في أي نظام سياسي هو الانسان ولكن هذا الامر يكاد يكون مفقودًا في أدبيات الاحزاب أو في البرامج الانتخابية لها أو للكتل السياسية بجميع تلوناتها الدينية والعلمانية والقومية وأي تصنيف اخر لأي حزب شارك في الانتخابات .
مع ملاحظة أني أتحدث عن البرامج الانتخابية فقط وليس عن أدبيات كل حزب، فالمعروف أن أدبيات الحركة الاسلامية لمعظم أحزابها تستهدف الانسان ليكون حرًا ومؤمنا بالله ويعيش في مجتمع عادل .
واجابة على التساؤل الذي فرضته أعلاه أجد الجواب يميل الى نفي اهتمام النظام السياسي ببناء الانسان أو المجتمع وربما كانت الفوضى التي فرضها وجود الاحتلال وتداخل الارهاب مع عمليات المقاومة، ورفض اطراف اخرى للعملية السياسية بحجة وجود الاحتلال
كل هذه الامور وغيرها دفعت أغلب السياسين الى فقدان توجههم نحو المجتمع ونحو الانسان العراقي، مما شجع ذلك الى نمو النزعة الانتقامية جراء ما عاناه المواطن من ضغط نفسي وتعسف وانتهاك لحقوقه لعقود من الزمن، تلاها تدهور لكل الاوضاع بعد 2003.
كما إنَّ السلوك السياسي لمعظم الاحزاب والحكومات المتعاقبة تجدها بعيدة عن الاهتمام بالانسان والمجتمع رغم إنَّ رئيس الحكومة الاسبق (ابراهيم الجعفري) قد رفع شعار “دولة الانسان ” إلا أن عقبات وملابسات كثيرة حالت دون أن يطبق هذا الشعار، كما إنَّ شعارات آخرى تداولها الدكتور العبادي رئيس الوزراء للفترة من 2014-2018 منها العدالة الاجتماعية، وإعادة ثقة المواطن بالدولة أو جعله جزءً من منظومة الدولة إلا أنها كانت تصطدم بأولويات أُخرى أهمها عمليات التحرير وطرد منظمة داعش الارهابية، ولم تسنح الفرصة لإكمال رؤيته أو لنقل إنَّ الوقت لم يسعفه في تطبيق ما يعتقده لانتهاء ولايته وعدم التجديد له في الظروف المعروفة بعد انتخابات 2018.
إنَّ غياب الرؤية البنائية لشكل الانسان وشكل المجتمع بعد 2003 في عقلية السياسين أو الأحزاب أدى الى فسح المجال للاخرين من غير العراقيين الى ملئ الفراغ ضمن مخطط مدروس لابقاء الانسان العراقي في دائرة الصراع الذي يعده صراعًا من أجل الوجود بينما يتجه الى الانتحار في حقيقة الامر، وهو مايبقي المجتمع في دوامة اللاهدفية أو التيه – إن جاز التعبير- ولهذا كان التفكك الاجتماعي وانهيار القيم المجتمعية هي الظاهرة السائدة.
وبما أنني لا أُميل الى عرض المشكلة بطريقة سودواية أو أقوم بجلد الذات وصب اللعنات على هذا وذاك فقط، بل ابحث عن حل في التأمل بايجاد نقطة ضوء للانطلاق نحو ما اطمح الى ترسيخه من خلال ما أكتبه وهو السلم الاجتماعي المبني على قواعد وركائز متينة.
ولهذا لا بد من إعادة قراءة لسلوك الحكومات في علاقتها مع الانسان والمجتمع، وإعادة صياغة بناء المفاهيم التي تحويها كتب الحركات الاسلامية لتتحول الى اولويات في برامج انتخابية من أجل وضع لبنات وقواعد أساسية لازالة العُقد المتراكمة لدى المجتمع العراقي، وإعادة ترتيب العلاقة بينه وبين النظام السياسي.
ولاشك أنَّ إستقرار النظام السياسي عامل مهم في الاستقرار الاجتماعي، ومازال النظام السياسي هشًا بالرغم من مرور عقدين من الزمن على هذا النظام مما يُساعد في السماح لبؤر التوتر من أن تتحول الى فوضى، وتؤدي الى الخلل في السلم الأهلي.
إنّ من أولويات النظام السياسي إقناع المواطن بأهمية الاستقرار، وتوفر قناعة لديه، وذلك في عملية تناسب طردي بين الطرفين في عملية تفاعلية متداخلة.
وإن كان المتصدين للنظام السياسي والعاملين فيه حريصين عليه فلا بد لهم العمل من أجل السلم الاجتماعي من خلال التفكير في تغيير السلوك السياسي والأداء اليومي لهم ليكون المواطن والمجتمع كوحدة واحدة وتكون الاولوية لهذا كهدف أساسي لهم..
وأن تتحول أولويات الحكومة القادمة الى الاصلاح الاجتماعي وارساء العدالة وحرية الانسان بدلا من السعي الى العمل على بقائها من خلال ارضاء للطبقة الحاكمة فقط واهمال بقية طبقات المجتمع.
إنَّ إعادة إدخال المواطن في اولويات عمل الحكومة وبرامجها هو ما يعيد الثقة بين الطرفين .
وقد تكون هذه امنيات وأحلام مالم تكن هناك قيم حقيقية يحملها أفراد الحكومة القادمة، وأن يعي المسؤول الحكومي أن ضمان المستقبل له يأتي من خلال ما سيقدمه للمجتمع لا من خلال علاقاته السياسية فقط.
إننا بحاجة الى اعادة صياغة للوعي السياسي لدى المواطن بأهمية وجود نظام سياسي كمظلة للمجتمع بدلا من الفوضى التي تتحول الى نزاعات مسلحة بين حين واخر و كأننا نحيا على بركة سائل سريع الاشتعال ويحمل كل منا شعلة من نار، ما إن يشعر باهتزاز موقفه حتى يحاول اشعال كل الارض تحته ليحرق نفسه والبقية في آن واحد.
لهذا يجب أن نحول هذه المشاعل الى كلمات وتنتقل الى حوار تنتج الافكار العقلانية كجزء من عملية البناء السلمي نحو الاصلاح المجتمعي.
وللحديث بقية…