البحث العلمي في لبنان مرميٌّ على الرفوف وممنوعٌ من الإبداع | كتب د. مازن مجوّز
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
تواجه المؤسّسات البحثيّة في لبنان بشكلٍ عام العديد من المشاكل التي تعكس قلّة اهتمام السّلطات الرسميّة من وزاراتٍ وغيرها بإنتاج المعرفة، وربّما قلّة وعيها بقدرة هذا الإنتاج على تغيير مصير المجتمعات وتنميتها، خصوصًا أنّ لبنان اليوم هو بأمسّ الحاجة إلى التنمية في قطاعاته كافّة.
في المقابل، نرى أنّ نتائج البحث العلمي في الكثير من الدول المتقدّمة ولدى بعض الدول النامية أثبتت أهميّة الركون إليها في تحقيق معدّلات نموٍّ اقتصاديةٍ مرتفعةٍ ومستدامة، وفي خلق فرص عملٍ ذات قيمةٍ مضافةٍ عاليةٍ على نطاقٍ يكفي لترسيخ الوئام الأهلي والحدّ من الهجرة.
أمّا في لبنان، فالهجرة تحقّق أرقامًا قياسيةً والتّنمية المستدامة في “أتعس” حالاتها، بفضل الرّفض الضمنيّ والعمليّ للدولة وسياسات حكوماتها المتعاقبة لاعتماد البحث العلمي كخطّةٍ لتحقيق مستقبلٍ أفضل وأكثر استدامةً للجميع، وبفعل تجاهلها لنتائج البحث العلمي كقاعدة انطلاق.
وفي هذا السياق تؤكّد البروفسورة مي عبد الله، أستاذة علوم الإعلام والاتّصال في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية، في حديثها لـ “هنا لبنان” أنّ البحث العلمي في لبنان غالباً ما يقف على أعتاب الدعاية والبرمجة النظرية، بعيداً عن الرغبة الجادّة في تحقيقه، وهو في معظم الأحيان يهدف إلى الحصول على درجةٍ علميّةٍ أو ترقية.
وبالنسبة إلى الاستفادة من نتائجها فتقول: “غالباً ما تنتهي نتائج البحث العلمي في بلدنا على رفوف المكتبات أو المختبرات من دون الاستفادة منها واستثمار نتائجها في إطلاق أو تطوير مشاريع تنموية تفيد الوطن والمواطن، أو حتّى باستغلالها لحلّ المشكلات التربوية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية والمالية والتي يتخبّط فيها اللبناني بشكلٍ غير مسبوق”.
كذلك من أهمّ معوقات البحث العلمي في الجامعات العربية هو ضعف التمويل، رغم أنّ البحوث العلمية هي التي تُثرينا بالمعرفة وهي أساس اقتصاد العصر الذي سُمّي باقتصاد المعرفة. لذا يجب أن يدرك المسؤولون بدورهم في الجامعات ومراكز البحوث العلمية هذه الحقيقة، كون البحث العلمي هو من أهمّ أدوار الجامعات ويحتاج إلى رصد ميزانيةٍ تفي بمتطلباته.
والإحصائيات في الدول العربية تشير إلى أنّ ما تنفقه الجامعات ليس بذاك المستوى المطلوب.
في الواقع، الصورة ليست سوداويّةً بالكامل فقد احتلّ لبنان المرتبة الثالثة في ترتيب الدول العربية في مؤشّر جودة التعليم 2021 خلف قطر (الأولى) والإمارات (الثانية). كما حلّ في المرتبة الـ 25 عالميًّا وفق المؤشر نفسه، وبالطبع هذه مدعاةُ فخرٍ واعتزازٍ لكلّ لبنانيٍّ ولبنانية.
لكن في زمن الحروب والأفكار التي نعيشها ألا يُعدّ البحث العلمي ضرورةً ومعيارًا لمقياس تقدّم الشعب اللبنانيّ ونهضته؟ وهل يستفيد لبنان فعلاً من أهمّ إنجازاته البحثية والعلمية؟ وهل تدرك المنظومة الحاكمة أهميّة إنشاء دليلٍ للأبحاث العلمية يشكّل خريطةً للباحثين تنعكس آثارها إيجاباً على قضايا المجتمع اللبنانيّ وتساهم بالتالي في حلّ مشاكله الحالية المتنوّعة والشديدة التعقيد؟
بصراحتها المعهودة ترى عبدالله أنّ البحث العلمي والإنتاج العلمي بحاجةٍ إلى استقرار، وفي غياب النظام المستقرّ وسياسات الدولة وفي غياب الوطن، لا يمكن الحديث عن بحثٍ علميٍّ مكتمل العناصر والأهداف، عازيةً ذلك لكون الأبحاث العلمية تشكّل وحدةً متكاملةً ومترابطة، لافتةً إلى أنّها اليوم “بحاجةٍ إلى تمويلٍ وتخطيطٍ وربطٍ مع السياسات الوطنية، كي تصبح قادرةً على تلبية حاجات الشعب اللبناني، إضافةً إلى حاجتها إلى الإهتمام وإلى أن تكون ملحوظةً في سياسة الدولة والحكومة من خلال تخصيص ميزانيةٍ لها” وفق تعبيرها.
ولكن السّؤال هل لا يزال البحث العلمي في لبنان هادفًا؟ برأي عبدالله، هو لم يعد كذلك، فحتّى الأبحاث النّظرية التي تساهم في إنماء الفكر لم تعد موجودةً، لأن إنماء الفكر يحتاج إلى استقرارٍ وإلى باحثين يتمتعون باستقرارٍ نفسيٍّ وقادرين على العمل براحةٍ، لا أن يكونوا دائمًا منشغلين بمشاكلهم المعيشية والاقتصادية والمالية، لأنّه وفي الحالة هذه لن يتمكّن أيّ باحثٍ من العطاء كما يجب، أي براحةٍ وإبداع، لأنّ الإبداع يحتاج إلى استقرارٍ ومناخٍ ونظامٍ معيّنٍ يحفّز عليه ويساهم في تحقيقه.
وفي الختام يعتبر تطوير البحث العلمي أحد أهمّ غايات الدول والمجتمعات التي تطمح لتطوير صروحها المعرفية والعلمية، وبالتالي تحقيق الازدهار والتفوق في جميع مناحي الحياة… كما أنّ أهميّة البحث العلمي تكمن في كونه أداةً فريدةً للبقاء على صلةٍ مع عالمنا المعقّد، الذي لا يتوقّف عن التطوّر، وبدونه، سنضطر إلى الاعتماد فقط على الحدس، وسلطة الآخرين، والحظّ الأعمى. فهل هذا ما يصبو حكّامنا إلى تحقيقه؟