الدبلوماسية الأمريكية والمهمة المستحيلة مع الصين في الذكرى الخامسة والاربعين لاقامة العلاقات بينهما | كتب د. عوض سليمية
نتائج القمة التي جمعت الزعيمين الصيني شي جين بينج والامريكي جو بايدن في وودسايد بولاية كاليفورنيا في وقت سابق من العام الماضي، أظهرت نتائجا معاكسة لطموحات قادة القطبين الكبيرين في ارساء الاستقرار الاستراتيجي والحفاظ على علاقات مستقرة قائمة على التنافسية، منعا من انزلاق القطبين إلى حافة صراع أو حرب باردة جديدة أو ابعد من ذلك نحو مواجهة مباشرة، لا يحتاجها العالم الان. بعد انتهاء الزيارة كانت الرسالة الدبلوماسية للرئيس الامريكي قد كشفت عن مزيد من الحواجز العالية بين البلدين، “الولايات المتحدة ستواصل الانحياز الصارم إلى الحلفاء والشركاء في جميع أنحاء العالم. وأن بلاده ستدافع دائمًا عن مصالحها وقيمها وحلفائها وشركائها”، قال الرئيس بايدن.
لم يكن هذا اللقاء هو الاخير، بل تواصلت موجة الاتصالات بين مسؤولي البلدين دون توقف. ومع ذلك، اتسعت الفجوة وزادت القضايا الخلافية على جدول اعمال الدبلوماسيين والتي تستدعي ايجاد حلول عاجلة لإدارتها.
ضمن هذا السياق، كرر كبير الدبلوماسية الامريكية بلينكن خلال زيارته لبكين اواخر شهر ابريل الماضي ولقائه بالرئيس شي وكبار المسؤولين الصينيين، ما وصفه بمخاوف واشنطن من سياسات بكين المتمركزة حول “عدم احترام الاقوال الى افعال”. ووجه بلينكن في حديثه مزيدا من الانتقادات لسياسات بكين، يقول بلينكن “إن الولايات المتحدة واضحة للغاية بشأن التحديات التي تفرضها الصين وبشأن رؤيتنا التنافسية للمستقبل”. الدرس الصيني في الدبلوماسية الحكيمة لم يتأخر، وجاء على لسان الرئيس شي، قائلا، “إن أكبر اقتصادين في العالم يجب أن يكونا “شريكَين وليس خصمَين”، موضحا أنه لا يزال هناك “العديد من القضايا” التي يجب حلها في إطار علاقاتهما”، داعيا الولايات المتحدة “للنظر لتطور الصين بشكل إيجابي”.
نقاط الخلاف بين القطبين الكبيرين متعددة ومعقدة وتحتاج الى مزيدٍ من النقاشات لايجاد حلول مبتكرة لتجاوزها او على الاقل الحد من تطورها، للحفاظ على الحد الادنى من الاستقرار الاستراتيجي الذي تطمح له القيادتان. احد اهم هذه النقاط التي تؤرق الصين هي انشطة التحالفات العسكرية والامنية التي تقودها واشنطن. ترى بكين ان الافعال الامريكية المدفوعة بمواقف سياسية مسبقة ومصالح احادية تتناقض تماما مع التصريحات الدبلوماسية للامريكيين. وتتهم واشنطن بالمضي قدما في سياسات تطويقها وعزلها عن محيطها عبر صناعة الاحلاف العسكرية والامنية، على سبيل المثال تحالف AUKUS وتحالف العيون الخمسة+ الاستخباراتيFive Eyes intelligence الموجه ضد مصالح الصين.
وتراقب بكين عن كثب مساعي واشنطن المستمرة الرامية الى ضم المزيد من دول شرق وجنوب شرق آسيا الى تحالفات ثنائية او جماعية بما فيها (اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان، الفلبين وحتى فيتنام)، في إطار ما تسميه الادارة الامريكية تعزيز منطقة المحيطين الهندي والهادئ “الحرة والمفتوحة والمتصلة والمزدهرة والآمنة والمرنة”، والحفاظ على السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان، وسيادة القانون وحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي. بالتوازي مع المزيد من التدفقات المالية نحو حلفائها في المنطقة (مؤخرا تم اقرار حزمة مساعدات بقيمة 8 مليارات دولار لمواجهة ما تسميه امريكا “عدوانية” الصين المتزايدة تجاه تايوان وفي بحر الصين الجنوبي).
ومع تعزيز التعاون الصيني الروسي منذ اندلاع العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا فبراير 2022، يرتفع مؤشر المخاوف في البيت الابيض من نوايا موسكو وبكين، ليسجل المؤشر مزيدا من الصاق التهم على قائمة المحاذير الامريكية، بما فيها التهم المتعلقة بدعم الصين للقاعدة الصناعية الدفاعية لروسيا. الصين شجبت هذه الاتهامات واعتبرتها لا اساس لها من الصحة ووصفها المتحدث بإسم وزارة الخارجية الصيني وانغ ونبين بانها “نهج منافق للغاية وغير مسؤول على الإطلاق”.
محاولات واشنطن في انشاء التحالفات لاحتواء الصين لا تتوقف على دول الجوار الصيني، بل تمتد ايضا الى حلفاء واشنطن الغربيين، في رسالة مباشرة الى بريد دول الناتو لتبني مزاعم بلاده فيما يتعلق بخطورة تنامي العلاقات الثنائية بين روسيا والصين على النفوذ والامن القومي الامريكي، ورد احدث تحذير عن وزير الخارجية الامريكي بلينكن خلال مناقشاته الاخيرة مع المسؤولين الصينيين قوله “ان تأجيج القاعدة الصناعية الدفاعية الروسية لا يهدد الامن الاوكراني فحسب بل يهدد الامن الاوروبي”. مضيفاً إن “ضمان الأمن عبر الأطلسي هو مصلحة أساسية للولايات المتحدة… وإذا لم تعالج الصين هذه المشكلة، فسنقوم نحن بذلك”. هذه الرسائل يمكن تفسيرها في سياق فشل واشنطن في ثني بكين عن اقامة علاقات اقتصادية وتجارية مع جارتها موسكو، وحرص بكين على قرارها الوطني المستقل ورفض فرض فيتو الامريكي على حدود علاقاتها الخارجية. دون ان يكشف كبير الدبلوماسيين الامريكيين عن ادوات الضغط الامريكية التي تمتلكها واشنطن لدفع بكين على قطع علاقاتها مع موسكو او الحد منها.
مع بقاء قضيتان جدليتان بين بكين وواشنطن على جدول النقاش المستمر وهما، السلاح النووي لكوريا الشمالية وقضية استقلال تايوان عن البر الصيني. تزدحم قائمة الخلافات بمزيد من المخاوف والتشكيك بما فيها، إدعاءات واشنطن المستمرة بشأن السياسات التجارية للصين والممارسات الاقتصادية “غير العادلة” والانتاج الصيني المفرط الذي يغرق اسواق العالم، واستمرار واشنطن في التدخل في الشأن الصيني الداخلي وإثارة قضايا الديموقراطية وحقوق الانسان في الاقاليم الصينية. بالمقابل، إتهامات واشنطن لبكين في التدخل في الانتخابات الامريكية القائمة الان، الى جانب قيام واشنطن بفرض مزيد من العقوبات على الشركات ورجال الاعمال الصينيين. حظر منصة الــ TikTok، قضايا الطاقة الخضراء وقضايا الذكاء الاصطناعي.
على صعيد القضايا الخارجية، من بين خلافات اخرى، تسود فجوة كبيرة في مواقف البلدين تجاه استمرار العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، وسياسات واشنطن الداعمة لاسرائيل في مجلس الامن والمصممه على إجهاض قيام الدولة الفلسطينية لانهاء الصراع، وحصول فلسطين على العضوية الكاملة في الامم المتحدة. بالاضافة الى تنمية العلاقات الثنائية بين الصين ودول الكتلة الخليجية، وجهود القيادة الصينية في تخفيف حدة التوتر القائم بين الطرفين العربي والايراني ونزع فتيل الازمات في منطقة الشرق الاوسط.
ليس من المستغرب ان زيارة بلينكن للصين التي استمرت ثلاثة ايام لم تنجز شيئاً باستثناء اضافة مزيدا من الشكاوى على قائمة محاذير واشنطن. في الذكرى الخامسة والاربعين لاقامة العلاقات بينهما، فإن التاكيدات الصادرة عن الطرفين والمتعلقة بإظهار قدرتهم على إدارة المنافسة بمسؤولية، تُظهر مزيدا من الادلة حول عمق الازمة، وتلقي بظلالها بمزيد من الشكوك وإنعدام الثقة السائدة في العلاقات. في الوقت الذي يُذكر فيه بلينكن قادة الصين بالتزام واشنطن الحديدي بالدفاع عن حلفائها في منطقة المحيطين الهندي والهادي، تعمل القيادة الصينية بسياسة حكيمة لمنع اسباب التصعيد، لكنها في الوقت نفسه تحذر واشنطن من تحول المنافسة المشروعة الى «منافسة شرسة» وتذكرها بسماكة الخطوط الحمراء الخاصة بمصالح الشعب الصيني، ومبدأ الصين الواحدة التي لن تسمح لواشنطن بتجاوزها.