الصين: بين الإستثمار والاستحواذ (تخوف مشروع) | بقلم حسان خضر
طرح الرئيس الصيني “شي جين بينغ” الى مبادرة الحزام والطريق في العام 2013 والتـي تمدد بموجبها النفوذ الصيني إلى مناطق واسعة من العالم، في أوروبا وأفريقيا وآسيا، من خلال شبكة مـن الطرق والموانئ والمطارات ومشاريع البنية التحتية. ويبدو أن هذه المبـادرة سـوف تحـدد ملامح جديدة لتوازنات القوى في النظام الدولي، وهي مبادرة يمكن اعتبارها مشـروع القـرن الاقتصادي في العالم. وتعود بداية طريق الحرير إلى حكم سلالة هان في الصين قبل حوالي مئتي سـنة قبـل الميلاد، وقد أطلق عليه هذا اللقب سنة 1877 من قبل العالم الجيولوجي الألمـاني البـارون فرديناند فون ريشتهوفن، وقد كان لطريق الحرير دوراً كبيـراً فـي ازدهـار العديـد مـن الحضارات القديمة، مثل: المصرية، والصينية، والرومانيـة، والهنديـة، والتقـاء الثقافـات، والتبادل الفكري، والثقافي، وتعلم اللغات وتقاليد الدول التي سافروا عبرها.
أما حالياً، فإن مبادرة الحزام والطريق تتكون من “الحزام” البري الذي يربط الصين بوسط وجنوب آسيا ثم إلى أوروبا، ويربط “الطريق” البحري الصين بدول جنوب شرق آسيا ودول الخليج وشرق وشمال أفريقيا، ثم بأوروبا. وقد تم تحديد ستة ممرات اقتصادية برية: 1- الممر الاقتصادي بين الصين ومنغوليا وروسيا، 2- الجسر البري الأوراسي الجديد، 3- الممر الاقتصادي بين الصين وآسيا الوسطى وغرب آسيا، 4- الممر الاقتصادي لشبه الجزيرة الهندية الصينية، 5- الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، و6- الممر الاقتصادي بين بنغلاديش والصين والهند وميانمار.
وقد تَمَثَل هدف مبادرة الحزام والطريق في المساعدة في بناء مجتمع عالمي ذو مستقبل مشترك، وتشمل دولاً في مناطق مختلفة من العالم، وفي مراحل تنمية مختلفة، وثقافات مختلفة، أي إنه يتجاوز الاختلافات في الأيديولوجيات والأنظمة الاجتماعية. ومن المتوقع أن تساعد ممرات النقل ضمن مبادرة الحزام والطريق بطريقتين أساسيتين: أولها، تقليل أوقات السفر وزيادة التجارة والاستثمار إذ يقدر البنك الدولي أن تنخفض أوقات السفر بنسبة تصل إلى 12% بمجرد اكتمالها، كما ستنخفض أوقات السفر مع بقية العالم بنسبة 3% في المتوسط، مما يدل على أن الدول والمناطق غير الأعضاء في مبادرة الحزام والطريق سوف تستفيد أيضًا. ويقدر البنك أيضاً أن تنمو التجارة بما يتراوح بين 2.8% و9.7% بالنسبة لاقتصادات الممرات، وبين 1.7% و6.2% بالنسبة لدول العالم الاخرى. والأهم من ذلك، أنه من المتوقع أن تشهد الدول المنخفضة الدخل زيادة كبيرة في الاستثمار الأجنبي المباشر تصل نسبتها الى نحو 7.6% بسبب خطوط النقل الجديدة. ومن الممكن أن تساعد مشاريع النقل ضمن مبادرة الحزام والطريق في انتشال 7.6 مليون شخص من الفقر المدقع (أولئك الذين يكسبون أقل من 1.90 دولار في اليوم) و32 مليون شخص من الفقر المعتدل (أولئك الذين يكسبون أقل من 3.20 دولار في اليوم). وبحلول شهر يونيو 2023، كانت الصين قد وقعت أكثر من 200 اتفاقية تعاون في مبادرة الحزام والطريق مع أكثر من 150 دولة و30 منظمة دولية عبر خمس قارات.
في مقابل تلك العوامل المشرقة من المبادرة برزت بطبيعة الحال العديد من المآخذ والانتقادات، ومن تلك ما أشار اليه تقرير هام أعده باحثون من البنك الدولي وكلية كنيدي التابعة لجامعة هارفارد و”إيد داتا” ومعهد كيل للاقتصاد العالمي. فقد أشار التقرير إلى أن مجموع القروض التي قدمتها الصين في إطار مبادرة الحزام والطريق يفوق تريليون دولار أمريكي، ومعظمها ممنوحة لدول تعاني من صعوبات مالية، ما يجعل المبادرة أكبر مُحَصِل للديون في العالم، والصين أكبر الدائنين للدول الفقيرة. حيث منحت الصين قروضًا ضخمة لتمويل بناء ملاعب ومستشفيات وجسور وموانئ وسكك حديد وطرق سريعة في دول ذات دخل منخفض أو متوسط. وقد دخلت حالياً أكثر من نصف القروض في مرحلة سداد المبلغ الأصلي، وفق التقرير الذي توقع أن ترتفع تلك النسبة إلى 75% بحلول نهاية العقد الحالي.
ومن خلال تحليل البيانات حول التمويل الصيني لنحو 21 ألف مشروع في 165 دولة، قدّر التقرير أن بكين قد منحت دولاً ذات دخل منخفض أو متوسط مساعدات وقروضا تناهز 80 مليار دولار سنويًا، في حين تمنح الولايات المتحدة على سبيل المقارنة 60 مليار دولار سنويًا لهاتين الفئتين من الدول. ولفت التقرير إلى أن إجمالي الديون المستحقة – بما في ذلك المبالغ الأصلية باستثناء الفوائد- للمقترضين من العالم النامي للصين يبلغ 1.3 تريليون دولار على الأقلّ. ويقدّر التقرير أن تكون 80% من محفظة قروض الصين بالخارج في دول العالم النامي مقدمة الى دول تمر في ضائقة مالية، حيث تحاول بعض الدول، مثل ماليزيا وبورما، إعادة التفاوض على اتفاقياتها مع بكين لتخفيف أعبائها المالية.
وبحسب معهد الأبحاث الأميركي (Center for Global Development) فإن مبادرة ” الحزام والطريق ” تزيد بشكل ملحوظ من خطر خلخلة أوضاع ثمانية دول مثقلة بالديون وهي منغوليا، لاوس، جزر المالديف، مونتينيغرو، باكستان، جيبوتي، طاجكستان، وقرغيزستان.
ويتخوف التقرير من أن الصين سوف تطلب في النهاية من الدول العاجزة عن سداد الديون أشكالا أخرى من إعادة الدفع، مثل رهن الموانئ والأراضي، وهو ما يمهد لسيطرة صينية واسعة في جنوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، مشيرين إلى أن النفوذ الصيني قد يتطور ليصل إلى مرحلة التأثير على القرارات الاقتصادية والسياسية للدول العاجزة عن سداد الديون. وفي هذا السياق يُذكر بأن الصين قد وضعت يدها على أكبر وأهم ميناء بحري فيها وهو مرفأ شيتاغونع في بنغلادش، واستحوذت إحدى الشركات الصينية على ميناء غوادر الإستراتيجي في باكستان لمدة أربعين عاما، وستمتلك الشركة 85% من إجمالي إيراداته. واضطرت كينيا لرهن أكبر وأهم مرفأ بها “ميناء مومباسا” للحكومة الصينية، وذلك بسبب قروضها المتراكمة، حيث بلغ حجم الديون أكثر من 5.5 مليارات دولار. كما حصلت الصين على 85% من حصة مرفأ “هامبانتونتا” الإستراتيجي في سيريلانكا بعقد مدته 99 سنة، بالإضافة لحوالي 15 ألف فدان قريبة من الميناء كمنطقة صناعية. وفي تايلاند، تصاحب المخاوف البيئية أيضًا مشاريع البنية التحتية الكبيرة مثل السكك الحديدية عالية السرعة، وخاصة في المناطق الحساسة، ويرجع ذلك أساسًا إلى إزالة الغابات ونزوح المجتمع.
من جانب آخر، يرى مؤيدو مبادرة الحزام والطريق إنها تجلب موارد ونموًّا إلى دول الجنوب، أمّا معارضوها فينددون بالغموض الذي يحيط بتكاليف المنشآت التي بنتها شركات صينية. وتواجه المبادرة أيضًا انتقادات بسبب بصمتها الكربونية الضخمة والأضرار البيئية الناجمة عن المشاريع الكبيرة، مثل مشاريع البنى التحتية. وعادة ما تجد الدول التي تعيش أزمات اقتصادية صعوبة في التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد، خاصة شروطه بشأن تخفيف الإنفاق الحكومي، ووضع سياسة واضحة لتقليص دعم المواد الأساسية والمحروقات، مقابل أن يضخ الصندوق تمويلات محدودة وعلى أقساط لمساعدة الدول المتعثرة.
إن القروض التي تقدمها الصين لا تحتاج إلى الكثير من التفاوض، ولا تضع الحكومات في مواجهة شعوبها بطلب إصلاحات مستعصية، لذلك سرعان ما يتم الاتفاق معها بشأن القروض وفي غالب الأحيان يتم ذلك دون ضجيج، ما يُوقِع الدول المتعثرة اقتصاديا في الفخ. هذا، وترفض الصين اتّهامها بممارسة ” دبلوماسية فخ الديون “، وتقول إنها تحترم إرادة هذه الدول، ولم تجبر أبدا أي دولة على الاقتراض، ولم تجبر أي دولة على السداد، ولا تدرج أي شروط سياسية في اتفاقات الاقتراض، ولا تسعى إلى أي مصلحة سياسية.
لا شك أن مبادرة الحزام والطريق قد أحدثت نقلة تنموية واقتصادية في العديد من الدول حتى صح القول فيها القول بأنها مشروع القرن الاقتصادي. فالأموال والتكنولوجيا الصينية والقرار المركزي قد ساهم الى حدٍ كبير في تحقيق إنجازات هامة في أكثر من دولة وأكثر من مجال. وكثيرة هي الدول التي أبدت نظرة إيجابية تجاه الأموال الصينية ومبادرة الحزام والطريق. وفي حين اعتقد بعض الدول أن تلك القروضٌ والمساعدات هي شبه مجانية، ليتبين بعد عقد من الزمن بأن هذه القروض كانت مكلفة جدا اقتصاديا، وقد تعمل على تكبيل هذه الدول لارتباطها بالاقتصاد الصيني وبالتالي ترهن مستقبلها للشركات الصينية. فهل من المحتمل أن تتحول السياسة الصينية ضمن مبادرة الحزام والطريق من مبدأ الاستثمار والمساعدة التنموية والاقتصادية والمالية للدول الفقيرة والنامية، الى سياسة الاستحواذ على العديد من المشاريع الهامة والاستراتيجية وربما على القرار السياسي في هذه الدول لاحقاً؟