هذه المقالة تنقسم الى قسمين، بحيث سأتكلّم في الجزء الأول منها عن واقع الأزمة الإقتصادية-الإجتماعية-الصحية في لبنان في نهاية العام ٢٠٢١ وعن العلاقة بين الإكتئاب وأمراض القلب والشرايين وعن الأسباب البيولوجية الكامنة خلف زيادة خطورة امراض القلب والشرايين عند المرضى المصابين بالإكتئاب. وسأكمل في الجزء الثاني شرح تأثير ظهور الإكتئاب عند المرضى الذين يعانون من امراض قلب وشرايين وسندخل في تفاصيل بعض الحالات المرضية وسنغوص اكثر في تفاصيل هذه العلاقة التفاعلية الوطيدة بين الجهازين النفسي والوعائي وأساليب الوقاية والعلاج.
١- واقع الأزمة الإقتصادية-الإجتماعية -الصحية في نهاية العام ٢٠٢١:
تؤكد الدراسات والوقائع والمعطيات العلمية الأروربية والأميركية وجود علاقة ثابتة بين ازدياد نسبة امراض القلب والشراين عند الطبقات الفقيرة وعند ذوي الدخل المحدود وعند الفئات التي تزداد عندها نسبة البطالة بسبب تدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في تلك الدول. وفي ضوء كل تلك المعطيات العالمية يُمكننا ان نتصوّر انه من السهل جداً توقّع وجود نتائج ومعطيات كارثية على كل المستويات الصحية والإجتماعية في لبنان للأسباب التي سنوردها تباعاً. فجميعنا نعلم اليوم أنّ الوضع الإقتصادي والإجتماعي في لبنان بدأ بالإنحدار تدريجياً منذ نحو ثلاث سنوات وبلغ ذروته في التدهور في المرحلة التي امتدّت منذ إنطلاق حراك ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩ وحتى تاريخ اليوم، مع ارتفاع جنوني وصاروخي متدرّج في سعر صرف الدولار على الليرة اللبنانية والذي وصل الى حدّ الـ ٢٤ الف ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد .
وقد أدّى تدهور قيمة العملة الوطنية الى عوامل كثيرة، من الممكن ان نقول أنها أصابت بكل مقتل المواطن اللبناني وأدّت الى أوضاع إجتماعية إقتصادية إجتمعت جميعها لكي تزيد من حدّة وخطورة أمراض القلب والشرايين ومن مخاطر التعرّض لها.
هذه العوامل ذاتها بالإضافة الى الأزمات السياسية المتتالية والخطّات الأمنية المتنقّلة والمتكررة وأعمال العنف والشغب وقطع الطرقات التي صاحبت هذه الأزمات في معظم الأحيان، زادات من حالات القلق والتوتر والإكتئاب التي اصابت ايضاً معطم بل كل شرائح المجتمع اللبناني منذ بداية الحِراك وحتى منذ ما قبله وحتى تاريخ اليوم. ممّا أدىّ الى أن يعيش المواطن اللبناني تحت وطأة التوتر والقلق الدائم ومما تسبب احياناً بالكثير من حالات الإنتحار خاصة عند بعض الشباب الذين وصلوا الى مرحلة اليأس بعد ان وجدوا انفسهم غير قادرين على تحصيل ثمن لقمة العيش واقل مقومات الحياة الكريمة. وقد ادّى إنخفاض قيمة الليرة اللبنانية في مقابل الدولار الى ان يصبح الحد الأدني للأجور حوالي ٦٥ دولار أميركي فقط. وانخفضت قيمة اجور او معاشات الموظفين والعمال الى درجة لم تعد تُطاق. كذلك ضربت البطالة بشكلٍ مهول معظم شرائح المجتمع اللبناني بحيث يُقدّر الخبراء بأنّ مُعدّل البطالة وصل حالياً حوالي ٤٠ الى ٥٠ % من الطبقات العاملة في لبنان. وأن هناك اعداد هائلة من المواطنين الذين صُرفوا من أعمالهم وعدد كبير آخر من الموظفين الذين يتقاضون نصف معاشهم او حُسومات مُهمّة على معاشاتهم… وستؤدي كل العوامل التي ذكرناها الى زيادة إستعمال التدخين والكحول والمخدّرات عند مختلف تلك الطبقات التي أصبحت حالياً ذات دخل محدود جداً ومعدوم القدرة الشرائية أو تعاني من بطالة مُستجدّة، خاصة عند الطبقات الشبابية منها أو لانها انتقلت لتعيش في أحياء ومناطق مزدحمة وفقيرة يعشعش فيها عالم المخدّرات والإنحراف. وهناك مسألة اخرى تتعلق بسعر الأدوية المزمنة وخاصة ادوية القلب والضغط والسكري والكوليسترول وغيرها والتي ارتفعت اسعارها بمستويات خيالية خلال الشهر الماضي بعد “رفع الدعم الشبه كلي” عن معظم الأدوية، هذا إضافة الى فقدانها المُتكرر من الأسواق بسبب صعوبات الإستيراد الناتجة عن فقدان الدولارات وصعوبات تحويلها للخارج وبسبب الإحتكار والتهريب في المراحل السابقة.
وهذا ما سيضطر الكثير من المرضى الى إيقافها لعدم قدرتهم على دفع اثمانها ونحن نعرف خطورة هكذا خطوة على صحة هكذا مرضى وما سيتسبب به ذلك من أزمات قلبية وجلطات ودماغية ووفيات!. اخيراً وليس آخرا هناك عامل آخر خطير يتعلّق بكلفة العمليات التشخيصية والعلاجية لأمراض القلب والشرايين في الوقت الحالي بحيث انّ المواطن اللبناني وجد نفسه مُضطراً لأن يدفع كلفة إضافية هائلة لم يعد بمقدوره ان يسددها مهما علا شأنه في كل او معظم المستشفيات والمؤسسات الصحية اللبنانية، بخاصّةً وأنّ معظم تلك المستشفيات انهارت هي ايضاً ولم تعد قادرة على الإستمرار على العمل بالطريقة القديمة وأنّ الشركات المورِّدة للمستلزمات الطبية تجبرها حالياً من اجل إستمرارها على التمكّن من الإستيراد بأن تدفع المبالغ المتوجبة عليها نقداً وفور إستلام البضاعة او بطرق اخرى مُبتكرة من وحي تعاميم مصرف لبنان التي حاولت معالجة هذه الازمة وبخاصة ايضاً وايضاً بعد رُفع الدعم عن معظم المستلزمات الطبية التي “طارت اسعارها” بشكل ٍ جنوني ومعظمها اصبح غير موجود في الأسواق لندرة وقلة الدولارات المتوفرة والقيود الكثيرة المفروضة على إسيترادها والتي جعلت معظمها مفقود من الأسواق.
٢-علاقة الإكتئاب وامراض القلب والشرايين:
في سنة 1628 وصف William Harvey الدورة الدموية كما نعرفها اليوم وأقترح يومها أن هناك أرتباط وثيق بين جهاز العقل والقلب . هذه الفرضية إنتظرت أكثر من 300 سنة لكي تكشُف إحدى الدراسات التي نشرت سنة 1993 بأن المرضى المصابين بالكأبة بعد تعرّضهم لذبحة قلبية ترتفع عندهم نسبة الوفيات بشكلٍ ملحوظ.
منذ ذلك التاريخ أكدت أكثر من مئتي دراسة العلاقة الوثيقة التي توجد بين أمراض القلب والشرايين والإكتأب. وقد اكدّت متظمة الصحة العالمية في تقرير نُشر في العام 2011 على الترابط الوثيق الموجود بين الأمراض العضوية والحالة النفسية للمريض بحيث يتأثّر كل منهما بوجود الآخر ويتفاقم مع تفاقم حدّة إصابته. وتشير الدرسات أن كلاً من الإكتئاب وأمراض تصلّب الشرايين هي أمراض رائجة جداً في المجتمعات المُتقدمة وفي مجتمعاتنا العربية وفي لبنان، بحيث تشير إحصائات منظمة الصحة العالمية إلى أن الإكتئاب يصيب حالياً حوالي 300 مليون نسمة في العالم اي حوالي 3,5 % من سكان العالم وحوالي 5 ٪ من البالغين. وتزداد نسبته كلما تقدّم الأشخاص بالعمر خاصة بعد سن ال 60 سنة. وتشير الدراسات ايضاً الى أن 17 % من الأشخاص يُصابون بالإكتئاب مرة على الأقل خلال مراحل حياتهم المتعددة. وتشير دراسات أخرى بأن هنالك على الأقل ثلاثون مليون نسمة سنوياً ممّن يبقون على قيد الحياة بعد تعرضهم لذبحات قلبية أو جلطات دماغية وأن ما يقارب 20 الى 35% من المرضى الذين يتمّ إدخالهم إلى المستشفيات بسبب مشاكل قلبية متعددة (خناق صدري مستقر- نوبات قلبية حادة – عمليات توسيع شرايين – عمليات قلب مفتوح ) يُصابون بالإكتئاب.
كل هذه المعطيات تشير إلى أهمية الترابط بين مشاكل القلب والحالة النفسية للمريض على المستوى العالمي .أما على مستوى لبنان فهناك معطيات كثيرة تضع أمراض القلب والشرايين كما في كل الدول المتقدّمة حتى تاريخ اليوم في رأس قائمة أسباب الوفيات. وكذلك أن 30 الى 50 % او اكثر من الشعب اللبناني يشكون من الإكتئاب بدرجات متفاوتة. هذه الأرقام هي ارقام قديمة واعتقد انها ارتفعت بشكلٍ كبير في السنتين الأخيرتين نتيجة للأزمة القاتلة التي تصيب البلاد). ويصيب الإكتئاب أيضاً ما يقارب 17 إلى 27% من المرضى الذين يتمّ إدخالهم الى المستشفيات بسبب مشاكل قلبية مختلفة.
٣- كيفية ومُسبّبات زيادة الأزمات القلبية خلال الإكتئاب:
أثبتت الدراسات أن الإصابة بالإكتئاب هي عامل مُسبب مُباشر لأمراض القلب والشرايين وبخاصة لمرض تصلّب الشرايين وأنه يزيد من نسبة الأحداث والإختلاطات القلبية ومن الوفيات القلبية والعامة عند المرضى الذين يُعانون منه.
فهناك اولاً امور تتعلّق بتغيير نمط الحياة الذي يصيب المريض المُصاب بالإكتئاب الذي يُبدّل كثيراً من نمط حياته فيصبح خمولاً خانعاً في اغلب الأحيان ولا يخرج ابداً من منزله للقيام بأي مجهود او اية تمارين رياضية لأن حالته النفسية خفّفت من إندفاعه ومن حبّه للحياة، وتزداد عنده الرغبة والحاجة للتدخين او لتناول الكحول او حتى المخدرات.
وقد يلجأ الى زيادة كمية الأطعمة التي يتناولها والى تغيير جذري في نظامه الغذائي بحيث لا يعود يحترم النظام الغدائي الصحي ويعتمد على الوجبات السريعة والمشروبات الغازية الغنية بالسكر وغيرها من الأطعمة والمواد الضارة بصحة القلب.
أخيراً وبسبب حالته قد يوقف كل الأدوية التي يتناولها عادة لعلاج الأمراض المزمنة التي يعاني منها مثل ادوية مرض السكري وارتفاع الضغط والكولسترول وغيرها وهذا ما قد يُؤدي عنده الى حوادث وازمات قلبية خطيرة.
وفي شق آخر من الأزمة هناك دور كبير لهرمونات التوتر مثل “الكورتيزول” Cortisol والهرمونات التي تفرزها الغدد الكظرية التي توجد فوق الكلية Catecholamines وهي هرمونات اساسية في تنظيم وتعديل وتوازن عمل القلب والشرايين ووظيفة الكلى وتوازن الضغط الشريان.
ولذلك فإن ارتفاعها بشكلٍ مزمن او احياناً مفاجئ خلال الإكتئاب له آثار كارثية على جسم الإنسان على المدى القصير والمتوسط وبخاصة البعيد. فهي تزيد من ضربات القلب وقد تتسبّب بحصول إضطرابات خطيرة ومميتة احياناً في ضربات القلب وترفع الضغط الشرياني وتزيد من تخثّر وتجلّط الدم ولعا آثار تدميرية اخرى على جسم الإنسان من ضمنها تدهور حالة السكري وارتفاع مستوى الدهنيات في الدم ايضاً.
وهناك عدة نظريات لهذه العلاقة المُباشرة بين الإكتئاب وزيادة الإصابات بأمراض القلب والشريان. فمنها ما يتمّ عبر زيادة إفرازات مادة الــ Serotonine التي لها دور في حصول خلل في عمل صفائح الدم Platelet dysfunction بحيث ان هناك معطيات تشير الى زيادة نسبة تخثًر الدم عند المرضى المصابين بالإكتئاب وهذا ما يؤدي لحصول الأزمات القلبية التي نعرف انها تنتج عن حصول جلطة او خثرة في داخل الشرايين.
وهناك من يردّ ذلك لعوامل اخرى لها علاقة بزيادة نسبة الإلتهابات وحدوث خلل في عمل البطانة الداخلية للشرايين التاجية للقلب Endothelial dysfunction وهذا ما يتسبب ايضاً بزيادة الإصابات بالحوادث القلبية.
وهناك ايضاً من يقول انها تنتج عن خلل في عمل الجهاز العصبي الإإرادي Autnonmic nervous sytem وهو قائم عادة على توازن دقيق بين الجهازين العصبي “الودّي” و”اللا ودّي”.
وفي حالات الإكتئاب يحدث خلل لصالح الجهاز الأول مما يؤدي الى إرتفاع مزمن في ضربات القلب وارتفاع الصغط الشريان وهذا ما يوصلنا في النهاية الى الأزمات القلبية. أخيراً هناك من يعتبر ان ذلك يمرّ عبر مشاكل أو خلل في وظيفة المحور الوطائي النخامي – الكضري hypothalamic-pituitary-adrenal-axis والجهاز الودي اللبي الكضري Sympathetic-adreno-medular system وأخيرا عبر مشاكل نفسية متنوعة.
ومع أن علاج الإكتئاب عند المرضى المصابين بأمراض القلب والشرايين ظهر أنه آمن وفعال نسبياً لديهم، بإستثناء بعض الأدوية القديمة التي تُعالج الإكتئاب والتي ظهر انها قد تكون خطيرة عند المرضى المصابين بأمراض القلب والشرايين ولذلك يجب تجنّب استعمالها عندهم ، فإنه لم يظهر حتى اليوم أن هذا العلاج يخُفف من نسبة الوفيات والأعراض القلبية والشريانية الخطيرة لهذه الأمراض عند هؤلاء المرضى.
لذلك فأن فهم معمّق اكثر للعلاقة الوطيدة بين هذين المرضين سوف يُشكّل وسيلة مُهمة لإكتشاف علاج ناجع لهذين المرضين الخطرين في آن.