
في زمن وجيز انقلبت أصوات كانت تصوغ خطاب المواجهة إلى أدوات تُنظّر ضد المقاومة، مروّجة بوعي أو من دونه لأفكار تُجرّم الفعل المقاوم وتسخر من جدواه. هذا التحول ليس عفويًا، بل يعكس هندسةً مقصودةً للمعنى ضمن بنيةٍ سرديةٍ تتحكم فيها السلطةُ الغالبة. أقترح تسمية ذلك بـ”النفي المعرفي”، أي إعادة تشكيل المعنى بما يخدم السلطة عبر إقصاء صوت الآخر أو احتوائه ضمن شروط الخطاب المهيمن.
الغرب الاستعماري ومعه الكيان الصهيوني لم يعودا بحاجة إلى الإحتلال المباشر؛ فالهيمنة تُمارَس اليوم عبر تنظيم المعنى وإنتاج اللغة بما يخدم بنيةَ السلطة.
وهنا تتحول بعض أصوات الداخل إلى وكلاء تأويل يعيدون تقديم الخضوع كحكمة والهزيمة كوعي، مما يخلق سرديةً مشوّهةً تبرّر القمع وتُجرّم المقاومة.
هذا التواطؤ التأويلي لا يأتي من فراغ . فلقد أشار ابن خلدون إلى انبهار المغلوب بالغالب، بوصفه من يمنح الشرعية النموذجية في السلوك واللغة. وهي علاقة اشتغل عليها لاحقًا عدد من المفكرين ، كل من زاويته، لتفكيك بنيتها الاستلابية.
فوكو قدّم قراءة جذرية للسلطة الحديثة كاشفًا كيف تُنتج ذاتها من خلال أنساق معرفية وخطابية ، فالخطاب عنده ليس مجرد كلام بل أداة ضبط تحدد ما يمكن قوله ، ومن له حق الكلام . وهو عندما يكون إعلاميًا ، يتحوّل إلى وسيلة لإقصاء الأصوات المخالفة، لا عبر المنع الصريح، بل من خلال قواعد لغوية تجعل بعض الأصوات بلا معنى داخل النظام.
في السياق نفسه، فكّك جاك دريدا مركزية المعنى وثباته، مما أتاح قراءةً جديدة للنصوص الكولونيالية باعتبارها تمثيلات مُتَحَيِّزة. أما ألبير ميمي، فقد فضح آلية التواطؤ بين المستعمِر والمخبر المحلي، بوصفها امتدادًا للسيطرة على الهوية ذاتها. وسبيفاك، بطرحها الجريء “هل يستطيع المستضعَف أن يتكلم؟”، كشفت كيف يُقمع صوت الآخر لا فقط بالقوة، بل أيضًا عبر إعادة صياغته كصوت يخدم السلطة. ويتكامل هذا مع تحليل إدوارد سعيد في “الاستشراق”، حيث يبيّن كيف تُبنى شرعية التمثيل الاستعماري عبر تحويل الشرق إلى مادة خطابية يُعاد إنتاجها وفق منطق الغالب.
هؤلاء المفكرون أجابوا تفكيكًا وتحليلًا على السؤال الجوهري : من يملك الحق في أن يُفهَم؟ وكيف يتحوّل الفهم إلى أداة هيمنة؟
لعبة السلطة: الإقصاء والإستغلال في سياق كربلاء وغزة
لا يكتفي منطق الهيمنة المعاصر بإقصاء الخطاب المقاوم، بل يوظف بعض أصواته لإضفاء شرعية زائفة على سلطته وتجريم كل مقاومة حقيقية. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، تحوّل سؤال “هل تدين حماس؟” إلى اختبار ولاء قسري يُفرض على مناصري خط المقاومة، كشرط للظهور الإعلامي، مما يجعله أداةً سلطويةً لإخماد صوت المستضعف. وكما تساءلت سبيفاك: هل يمكن للتابع أن يتكلم إذا كانت شروط الحديث تُملَى عليه؟
هذا التوظيف الداخلي للأصوات ليس خروجًا عن منطق الإستعمار، بل أحد أكثر أدواته فاعلية، كما أشار ميمي: تحويل المستعمَر إلى ممثل شرعي للمستعمِر.
في هذا السياق، تٌستحضر كربلاء بكل رمزيتها. حين استُدعي الحسين بن علي للبيعة ليزيد، لم يكن المطلوب مجرد إذعان شخصي، بل إخضاع صوت الحق لسلطة الأمر الواقع. رفض الحسين لم يكن رفضًا لشخص، بل لبنية سلطوية أرادت احتواء صوته داخل قاموسها. واليوم، يُراد للفلسطيني أن يُختزل في موقع الضحية القابلة للترويض.
كما رفض الحسين التحدث بلغة السلطة، تجد غزة نفسَها اليوم ممنوعة من إنتاج سرديتها الخاصة. صوتها يُعاد تمثيله ضمن خطاب خارجي يسبقها في النطق ويجعلها مادة للتحليل بدلًا من ذات ناطقة. هذا ما حذر منه فوكو حين بيّن أن السلطة لا تعمل فقط بالمنع، بل أيضًا بخلق بُنَى تحدد ما يمكن أن يُقال. في غزة، لا يُمنع الحديث تمامًا، بل يُسمح به ضمن شروط لا تتيح قول الشيء الصحيح.
في المقابل، تظهر المقاومةُ كفعل لاستعادة التمثيل الذاتي. وكما انتزع الحسين حقه في التعريف بنفسه بدمه، تُقاوم غزة اختزالها في سرديات مشوهة. وكما تحدّت زينب سلطة ما بعد كربلاء بقولها الثابت “ما رأيت إلا جميلاً”، وهو ما قوّض النظام التأويلي للسلطة، تمارس غزةُ اليوم فعلًا مشابهًا في مقاومة التمثيل السلطوي وتزييف الحقيقة.
لكن المفارقة المؤلمة أن هذا الصمود يُقابَلُ أحيانًا بخذلان داخلي . هناك من يتنكر لتضحيات الشهداء ويتهمهم زورًا بأنهم باعوا غزة، متناسيًا عقود الاحتلال والعدوان،هذا التواطؤ، الصامت أو العلني، هو النقيض التام لصلابة موقف زينب.
كربلاء وغزة ليستا لحظاتِ مأساويةً فقط، بل تمثّلان رفضًا جذريًا لاختزال الذات في موقع الضحية. إنهما صراعان حول من يملك صياغة المعنى وكتابة التاريخ.
غزة كمختبر للشرعيات في زمن الصمت و التواطؤ
في غزة، حيث تجاوز عدد الشهداء الخمسين ألفًا، معظمهم من النساء والأطفال، وفي ظل دمار البنية التحتية ومجاعةٍ مستمرة، تتجلّى الحقيقةُ التي أشار إليها فرانسوا بورغا المستشرق الفرنسي : ( لقد سقطت أسطورة الغرب الإنساني. لكن المسألة لا تتعلق بفقدان شرعية فقط، بل بانكشاف تواطؤ مباشر أو صمت مخزٍ من أنظمة ترى في دماء المستضعفين عبئًا يجب التخلص منه).
غزة، إذن، ليست فقط ساحةً للمجزرة، بل مرآة لأزمة شرعيات عميقة، ومختبرًا فلسفيًا لاختبار حدود الصوت والمقاومة.
الدرس المستلهم من كربلاء يتجدد: الشرعيات لا تُمنح عبر الزمن، بل تُنتزع بالفعل الصامد. رمزية الحسين لم تتعاظم فقط بتضحيته، بل بإصرار الحق على البقاء. وبالمثل، غزة اليوم ليست موضوعًا للتألم، بل فاعلٌ تأويلي يعيد تعريف شروط الفهم، كما طالبت سبيفاك بإنهاء عادة تحدث النخب باسم من لا يملكون صوتًا في العادة.
إن السلطةَ التي تُقصي المعنى المقاوم تُقصي في الوقت ذاته شرطها الأخلاقي؛ فبإنكارها للحق تُنكر على نفسها شرعيةَ الحديث عنه.
غزة تتحدى التأويلاتِ السطحيةَ والسردياتِ السلطويةَ وتفتح أفقًا لفهم أعمق لآليات الإقصاء والاستعمار الرمزي، وتفرض علينا إعادة التفكير في طبيعة الصوت المسلوب وضرورة انتزاعه. إنها، كما قال بول ريكور : “رمز يعطي مادة للتفكير”.
نحن لا نعيش فقط لحظة استعمار وحشي، بل لحظة تفكك رمزي يُعاد فيها إنتاج المستعمِر كممثل وحيد للمعنى، ويُسكت المقهورَ لا بالقوة، بل بالشروط التأويلية. كما في كربلاء، وكما في غزة، المسألة ليست فقط: من يتحدث؟ بل: من يضع قواعد الحديث ، وهذه هي ساحة المعركة الحقيقية.