الاحدثمراجعة كتب

كتاب جديد عن مركز الحضارة: الخطوط العامة للحكمة المُتعاليّة.. وصدر الدين الشيرازيّ | مراجعة سلوى فاضل

هل هناك فلسفة إسلاميّة؟ وكيف؟ ومن هم روادها؟ هذا ما كان أساتذة الجامعة اللبنانيّة ببيروت يطرحونه أمام عددٍ من طلابهم من رجال الدين، وهو سؤال كان يُثير حفيظة البعض المُتمكّن والمتشبّع بالفلاسفة المُحدَثين مثال مُلاّ صدرا والطباطبائي من طلاب الحوزات الدينية في لبنان.
فكثير من أساتذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية مثلاً يعتبر أنّ الفلسفة الإسلاميّة إنتهت مع موت ابن رشد (1126م-1198م) في القرن الثاني عشر الميلادي، حيث توّقف العقل العربي والإسلامي عند ذلك التاريخ، وانتهت الحضارة العربية-الإسلامية حين كفّر جماعة النقل جماعة إعمال العقل والفكر، وانتصروا بدخول المسلمين والعرب عصر الظلمات مع موت ابن رشد، الذي ورثه الأوروبيين وانتقلوا عبره من عصر الظلمات إلى عصر التنوير. من جهة أخرى، هل رد المسلمون الاعتبار لفكرهم بتقديمهم مُلاّ صدرا  كفيلسوف عصريّ حديث، تعويضًا عن موات نهج ابن رشد وانتهائه في مواجهة مع الفكر والعقل الغربيين، هذا الفكر الذي يُدّرس في الجامعات العربية مالئًا فراغًا كبيرًا؟
عبوديّت
هذا المُؤلف العظيم، أي عبدالرسول عبوديّت، في شرحه للكلام عن “الأسفار الأربعة والحكمة المُتعاليّة” أزال من أمام القرّاء صخرة كبيرة لا تزال عصيّة على جمهور الفلسفة القارىء بالعربية، العاميّ بمعنى أنه غير المتخصص. كان مُلاّ صدرا من أصحاب السير والسلوك العرفاني، وكما يذكر هو نفسه في مقدّمة كتابه «الأسفار» قد تلّقى الحقائق العرفانيّة عن طريق الكشف والشهود بنحو “تمُكن من أن يُعاين بواسطة هذه الطريق حقيقة ما كان قد توّصل إليه عن طريق البرهان، بل وأكثر من ذلك. وكان من أهل الاختصاص في العرفان النظريّ، وممن فَهِمَ عمق المقاصد العرفانيّة”. وكان المُلا صدرا من كبار شُرّاح المدرسة المشائيّة، فلا شك في أنّ شروحه وتعليقاته على «إلهيّات الشفاء» لابن سينا، وكتاباته في «شرح الهداية الأثرية» تُعد من أفضل الشروح والتعليقات على الفلسفة المشائيّة، مما جعله يحتل مكانةً راقيةً إلى جانب الفلاسفة المشّائين كالكندي (185-260هـ.ق)، والفارابي (258-339هـ.ق)، وابن سينا (370- 428ه.ق). كما درس المدرسة الإشراقية بعمق، فكان ندًا وكفوًا للسهروَردي في الفلسفة الإشراقيّة، ويكفي لإثبات ذلك التأمل في تعليقاته على حكمة الإشراق للسهروَردي.
كان مُحيطا بالنصوص الدينيّة، وعارفًا بمذاق الشريعة في الأصول والفروع، يشهد على ذلك ما قرره من تفاسير آيات القرآن الكريم، وما كتبه من شروح لقسمٍ كبيرٍ من “أصول الكافي”. درس على العلامة بهاءالدين العاملي الشهير بـ”الشيخ البهائي”، ومحمد باقر الإسترابادي المعروف بـ”الميرداماد”، وأبي القاسم فندرسكي، أما تلميذه فهو المرجع الفيض الكاشاني.
الخطوط العامة
عن مركز الحضارة لتنميّة الفكر الإسلامي صدر كتاب “الخطوط العامة للحكمة المُتعاليّة” بترجمته العربيّة على يد محمد حسين الواسطي، وهو من تأليف المُفكر الإيراني عبدالرسول عبوديّت في العام 2024.
يهدف هذا المُؤَلَف إلى التعرّيف بالمنهج الفلسفيّ لصدرالدين الشيرازيّ، في ظلّ غُموض أصحاب المناهج الفلسفيّة. ويتكوّن الكتاب من أربعة عشر فصلاً، وهي بحسب الترتيب: صدر الدين الشيرازي، ظهور الحكمة المتعاليّة، أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة، التشكيك في الوجود، علاقة الوجود الرابط للمعلُول، الحركة، الحركة الجوهريّة، العلم الحضوريّ أو رجوع حقيقة العلم إلى تجرّد الوجود، العلم الحصوُلي، الوجود الذهنيّ، معرفة الله، علم الله بالأشياء، مُلخص معرفة الإنسان عند ابن سينا، وخُلاصة معرفة الإنسان عند صدرالدين الشيرازيّ.
وللمُلّا صدرا تفسيرات مُختلفة للوحدة، فمثلاً يقول في رسالته “سريان الوجود”، إنّ “الاحتمالات كثيرة ومُتعددة الوجود، كما أنّ لها تعدديّة موضوعيّة وحقيقيّة، فالوجود إذاً واحد، لكن الموجود كثير ومتعدد”. ويقول أيضاً في “الأسفار” إنّ “الوجود في الواقع متعدد، لكن الحقيقة هي نفسها”.
بعد هذا العرض، لا بد من القول إنّ هناك من لا يعترف بمُصطلح الفلسفة الإسلاميّة أو الفلاسفة المُسلمين من المُفكرين العرب نظرًا للفروقات بالمصطلحات والمناهج والأفكار. فالفلسفة الغربيّة الحديثة اهتمت بالإنسان ونَحَتْ جانبًا بالماورائيّات عن موضوعاتها. فكان إيمانويل كنط آخر الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوروبيّة الحديثة، وأحد أهم الفلاسفة الذين كتبوا في نظرية المعرفة الكلاسيكيّة، حيث أن الفيلسوفين فردريك هيغل وفردريك نيتشه إهتمّا بالإنسان وما حوله وبالديالكتيك الذي أنتج الثورات مع بدايات القرن العشرين.
ما هي الحكمة؟ ولِمَا هي مُتعاليّة؟
الحكمة المُتعاليّة هي مدرسة قائمة بذاتها، ومدرسة فلسفية إسلاميّة، أسّسها صدرالدين الشيرازي الفيلسوف المعروف بـ«صدر المتألهين» وأيضا بـ«مُلّا صدرا». إذ إنه شيّد أركانها على نظريّته الأساس، والتي تقول بأصالة الوجود واعتبارية الماهيّة، بعد أن كانت الفلسفة الإسلامية مبنيّة على القول بـ”أصالة الماهيّة”.
وتتميّز مدرسة صدر المُتألهين باستقاء عناصرها من الدين الإسلامي مباشرة كالقرآن الكريم والروايات المُعتبرة لدى أتباع المذهب الإثني عشري الإمامي، ومن الوجدان والشهود، مع الإعتماد على المنهج العقليّ البرهانيّ. وسّع صدر المُتألهين بمدرسته هذه رقعة المسائل الفلسفيّة فأضاف خمسمائة مسألة مبتكرة على مسائل الحكمة اليونانيّة التي لم تتجاوز أصولها المئتي مسألة، فأوصل مسائل الحكمة إلى سبعمائة مسألة.
وبالعودة إلى المُصطلح فهو ليس بجديد، بل إنّ الفيلسوف العربيّ الإسلاميّ ابن سينا هو أوّل من استعمل مُصطلح الحكمة المُتعاليّة في كتابه المهّم “الإشارات والتنبيهات”. لكنّ هذا الإسم لم يُستعمل كإسمٍ لمدرسة فلسفيّة إلاّ بعد أن ألّف صدرالمتألهين كتابه المعروف في الفلسفة: “الحكمة المتعاليّة في الأسفار العقليّة الأربعة” والمشهور بـ”الأسفار” أيضًا.
من هو؟
هو محمد بن إبراهيم القوّام الشيرازيّ (وُلد في شيراز عام 1572م، وتُوفيّ في العراق ودُفن فيه عام 1640م)، وهو حكيم وفيلسوف ومؤسس مدرسة الحكمة المُتعاليّة بنظريته الأساسية أصالة الوجود وإعتبارية الماهيّة. جمع مُلاّ صدرا بين فرعيّ المعرفة النظريّ والعمليّ. وإليه يُنسب نهج الجمع بين الفلسفة والعرفان والذي يُسمى بـ”الحكمة المُتعاليّة”، حيث جاوز معاصريه بمنهجه الفكري. ففي عصره انتشرت مدرستان أساسيتان تتنازعان الفلسفة الإسلاميّة، أي الفلسفة المشائيّة والفلسفة الإشراقيّة، اللتان كانتا تبحثان في علم الكلام وفي العرفان سواء النظريّ منهما أو التصوّف.
أهم النظريات التي قامت عليها هذه المدرسة هي نظرية أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة، أما أهم المباني الرئيسة والفرعيّة للحكمة المُتعاليّة، فهي:
– نظرية أصالة الوجود
– نظرية التشكيك في الوجود
– نظرية الوجود الرابط للمعلول
– نظرية الحركة الجوهريّة
– إعادة بناء النظام الفلسفي الإسلامي
المسائل
أما أهم المسائل التي أضافها أو أعاد معالجتها بناءًا على نظامه الفلسفيّ الجديد، فهي:
-الوجود الطوليّ للماهية
-كون النفس جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء
-قاعدة (بسيط الحقيقة كل الأشياء)
-التقدّم بالحقيقة
-التقدّم بالحق
-تفسير جديد لنظرية العليّة
-كون المعلول رابطًا
-الاستدلال على الحدوث الزماني للعالم الجسماني
-تفسير كيفية اتصاف الماهيّة بالوجود
-تفسير كيفية ارتباط الوجود السيّال(ذو الجوهر المتحرّك) بالثابت
-صياغة جديدة لبرهان الصديقين في إثبات التوحيد
-تقديم استدلالات جديدة على أنّ علم الله عزّ وجل بالأشياء هو علم حضوريّ
-الإجابة عن إشكال ابن كمونة (وهو إشكال ظلّ مصدر حيرة للفلاسفة مدّة طويلة من الزمان)
-نظرية اتّحاد العالم والمعلوم
-إثبات الشعور لدى كافّة الموجودات
للسُلّاك من العرفاء والأولياء، بحسب المُلا صدرا، أسفارا أربعة:
أحدها: السفر من الخلق إلى الحق
ثانيها: السفر بالحق في الحق
ثالثها: يقابل الأول لأنه من الحق إلى الخلق بالحق
رابعها: يقابل الثاني من وجه لأنه بالحق في الخلق
أهميّة فلسفة مُلاّ صَدرا
أدّى المُلّا صدرا دورًا مهمًّا في تطوير الفلسفة الإسلاميّة، وكان كالسهروَردي يرى أنّ الحكيم المُتعال هو من حصّل المعرفة النظريّة والتجربة العرفانيّة معًا. ولا شك في أن فلسفة المُلاّ صدرا هي تجلٍ من تجليّات الاشتغال الإسلاميّ حول قضايا الوجود. ورغم صعوبة القراءة النقدية للحكمة المُتعاليّة وابتعاد المُختصين عن شرحها والاكتفاء بعرضها إلاّ أنّها كانت ولا تزال مدار بحثٍ لعدد من الأبحاث الأكاديميّة المُختصة.
آراء حول المُلاّ صدرا
لم تكن أفكار المُلاّ صدرا لتمرّ بسهولة لدى المُفكرين المُعاصرين نظرًا لصعوبتها، ولنحوها صوب التصوّف والعرفان. من هنا انقسموا حيالها فمنهم من وافقه ومنهم من انتقده. ويمكن ايجاز الآراء بالتالي:
– أتباعه ممن خلعوا عليه أرفع الصفات في الفلسفة والمعرفة، واعتبروه من أعظم الفلاسفة
وآخر الحكماء، وأنضج ما وصل إليه الفكر الإنساني.
وقد تبنّى هذا الرأي كبار المُفكرين والعلماء الشيعة الذين جاءوا بعده، وعلى رأس هؤلاء الفيض الكاشاني، والسيد محمد حسين الطباطبائي.
– منتقدو الصوفيّة الذين يرون في فلسفة المُلا صدرا احياءًا للفكر الصوفي والعرفاني، وخاصة لآراء ابن عربي التي طرحها في كتابيه “الفتوحات المكيّة” و”فصوص الحكم”. ويأخذون على المُلا صدرا استفادته من ابن عربي وشرحها في الأسفار ووصفه كلام ابن عربي بالشريف.
– المُحايدون وهم أصحاب رأي أغلب الفقهاء الذين لا يهتمون بالفلسفة ولا يعتنون بالعرفان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى