بعد خمسة عشر (15) جولة تصويت على بطاقة إنتخاب فاشلة، نتيجةً لإستمرار حجب 20 عضوًا من انصار الرئيس السابق دونالد ترامب، أصبح كيفن مكارثي (جمهوري عن كاليفورنيا) أخيرًا، الرئيس الخامس والخمسين لمجلس النواب الأميركي في دورته الــ 118، بعد تقديمه لتنازلات جوهرية سرعان ما قطف ثمارها بحصوله على تأييد 216 نائبًا جمهوريًا بفارق صوت واحد خجول (النائب مات جيتس، جمهوري من فلوريدا)، الامر الذي استدعى دق المطرقة بإعلان مكارثي تجاوزه لخط نهاية السباق وإعتلائه منصة قيادة مجلس النواب، مُنهيًا بذلك جمودًا استمر لأربعة أيام وكاد ان يكون تاريخيًا للمرة الرابعة في التاريخ الأميركي، وبالتالي حقق الجمهوريون هدفهم الاول المتأخر قليلًا في إزاحة نانسي بيلوسي عن مقعدها الذي اصبح شبه دائم منذ عقود، إيذانًا بمرحلة جديدة من العمل البرلماني بقيادة الجمهوريون.
ويُرجع المراقبون سبب الانقسام في صفوف الجمهوريين الى الخلافات حول عدة قضايا في السياسات الداخلية والخارجية للحزب. بما فيها، اتهام كتلة الحرية التي يقودها النائب المتشدد سكوت بيري (جمهوري من بنسلفانيا) والموالي لترامب، لزميله النائب مكارثي بعدم إتباعه الخط المتشدد الذي ينتهجه زملائه من الجمهوريين في مواجهة الادارة الديموقراطية وسياساتها وعلى راسها الرئيس بايدن منذ دخوله البيت الابيض يوليو 2020. بالاضافة الى تعنت مكارثي في إجراء تغييرات على قواعد مجلس النواب ذات النفوذ الكبير، والتي تمنح الجمهوريون المتشددون قبضة قوية على لجان المجلس المتعددة، وتفتح امامهم ممرات واسعة لمواجهات مخططة مسبقًا مع اعضاء مجلس الشيوخ ذو الاغلبية الديموقراطية الضئيلة (49 جمهوري مقابل 51 ديموقراطي).
الجمود الذي مر به الكونجرس الأميركي لمدة اربعة ايام متتالية، هو انعكاس طبق الاصل لصورة المأزق العام الذي تشهده الولايات المتحدة، وهو تجسيد واقعي لحالة الانقسام الحاد ليس فقط في مواقف السياسيين، بل في مواقف الناخب الأميركي نفسه، والذي افرز كونجرس منقسم، يسير اعضائه على خيط رفيع منحني، تجلعه عاجز عن ضمان الاغلبية حتى من بين اعضائه لدعم وتمرير مشاريع القرارات القادمة. ويعيد هذا المشهد الشعب الأميركي الى ايام لا يتمنون إحيائها، عندما كاد مشروع الاتحاد بين الولايات المتحدة في عام 1860 ان يفشل بسبب قضية العبودية، وفي ذلك الوقت، تكرر تصويت النواب في 44 جولة إعادة اقتراع. وسبق لهذا السيناريو ان تكرر عام 1856، عندما فشل اعضاء الكونجرس في الاتفاق على رئيس الا بعد 60 يومًا وتكرار 133 بطاقة اقتراع فاشلة في حينه. وأعيد إنتاج هذا المشهد مرة اخرى عام 1923 عندما فشل مجلس النواب في انتخاب رئيسًا له إلا بعد 9 جولات انتخابية.
في هذا السياق المتوتر، فإن سياسة لي الذراع للرئيس الجديد لمجلس النواب مكارثي لن يتوقف بمجرد فوزه بقيادة المجلس، بل متوقع ان يواصل الصقور الموالون لترامب داخل المجلس ممارسة حالة الضغط الاقصى على الرئيس الجديد لاستمالته نحو اجندتهم القتالية الموجهة نحو الديموقراطيين وإدارتهم، ولا احسب ان هامش المناورة الضيق لدى مكارثي سيمنحه مساحةً كافية للعمل السلس مع الاعضاء الديموقراطيين، بالنظر الى الاغلبية الضئيلة التي يتمتع بها الجمهوريون (222 عضوًا مقابل 212 للديموقراطيين)، مضافًا اليها تعثره في استقطاب الاغلبية الجمهورية الداعمة لتنصيبه منذ البداية، وإنعدام -ان لم يكن إستحالة، إنحياز الديموقراطيون لاجندة الجمهوريين. وبالتالي فإن المشهد السياسي على ممرات الكابيتول، قابل بمرونة للانزياح صعودًا نحو رغبات الاقلية المُعطلة والتي تفضل الإستمرار في إبتزاز مكارثي وأجندته التوافقية. وهو الامر الذي يشجعه الرئيس السابق دونالد ترامب، لبدء شن الهجوم الانتقامي المضاد على الادارة الديموقراطية ورئيسها بايدن.
ومع قناعتنا التامة، بعدم وجود فروقات جوهرية في السياسة الخارجية لواشنطن، تجاه جميع قضايا العالم الملتهب، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، بغض النظر عن الايديولوجيا التي يحملها زعيم الاغلبية او من يسكن البيت الابيض، فإن أمرًا ثابتًا واحدًا في السياسة الخارجية الأميركية الملتوية اصبح مألوفًا، وهو أن اسرائيل أصلًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، وهذه القضية محل إجماع للغالبية العظمى لاعضاء الكونجرس – مع بعض الاستثناءات القليلة، من كلا الحزبين الجمهوري والديموقراطي على حد سواء، بل تكاد تكون قضية سياسية داخلية، شأنها في ذلك شأن القضايا الاقتصادية والاجتماعية الشائكة التي يعاني منها المواطن الأميركي ويناقشها المشرع على مقاعد الكونجرس. وكانت البدايات غير المُبشرة لسياسة واشنطن المنحازة لاسرائيل، حاضرة في الجهود الكبيرة التي بذلتها للضغط على دول العالم وابتزازهم، من اجل إحباط طلب القيادة الفلسطينية الحصول على تصويت اممي في قاعة الجمعية العامة، يطلب من محكمة العدل العليا إصدار فتوى بشأن اثار انتهاكات اسرائيل وجرائمها المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، ومنعه من تقرير مصيره على ارضه. ومع إعلان حكومة المتطرفين في إسرائيل بدء ماراثون تصعيد الاجراءات العقابية ضد الشعب الفلسطيني وقيادته بسبب المطالبة بحقهم، تتعمق أصوات الناطقين الأميركيين غرقًا في مياه الاطلسي.
في الشأن الاقليمي والدولي، متوقع أن تواصل واشنطن سياساتها القائمة على قاعدة فرق تسد وشيطنة الاخر، الى جانب سياسة وجوب منع التقارب الحاصل بين خصومها. على هذه المبادئ صممت واشنطن حقيبتها في السياسة الخارجية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945، وأعادت صيانتها بعد انهيار الكتلة الشرقية عام 1991. واليوم تبدي انزعاجها الشديد من التقارب التركي السوري، والذي سينهي صراعًا دمويًا خلف الاف القتلى وملايين النازحين السوريين، وتُحذر من سياسات موسكو “الامبريالية” ومواقف الامارات العربية التوافقية الداعية الى ضرورة إعادة تطبيع علاقات الجمهورية العربية السورية مع الجسم العربي والدولي. في الوقت نفسه، تدعي واشنطن ان ايران تساهم بشكل فعال في “تمويل الحرب ضد اوكرانيا” من خلال تزويدها الجيش الروسي بطائرات بدون طيار، وهذا “يتعارض مع القوانين الدولية”، وحالة “نشر الامن والاستقرار الذي تعمل عليه واشنطن في العالم” وفقًا للناطقين الحاضرين في هذه القضية، لتُصدر الخزانة الأميركية مزيدًا من حزم العقوبات على طهران. بينما تلوح واشنطن باقصى الاجراءات ضد كوريا الشمالية النووية، تواصل حاملات الطائرات والاساطيل الحربية الأميركية، استفزاز الجيش الصيني بالمرور المتكرر عبر مضيق تايوان في استعراض للقوة لا يبشر بخير مع التنين الصيني. وفي مسار الحرب الجارية على الارض الاوكرانية، يعلن البيت الابيض عن حزمة جديدة من المساعدات العسكرية “القانونية والمسموحة” بمليارات الدولارات لكييف لضمان مواصلة حربها ضد الدب الروسي.
ضمن هذا المشهد السياسي والعسكري التصعيدي، يظهر السؤال الكبير: هل سيتحول الفريق المعطل -بالرغم من صغر عدده، في كتلة الحرية التي يقودها النائب سكوت بيري الى مركبة لإطفاء الحرائق التي اشعلتها الادارة الديموقراطية او تلك التي تخطط لاشعالها هذا العام عبر العالم، أم ان موقفه من مكارثي شخصيًا وسيختفي بمجرد ان يتذوق بيري وفريقه طعم الامتيازات والتي سيحصل عليها من مجموعات المصالح ورعاة الحروب في واشنطن، ويتخلى سريعًا عن اجندة رئيسه ترامب.