دوليقراءات معمقة

الحلم “البوتيني الأوراسي” وعلاقته بالمنطقة… كتب أكرم ناظم بزي

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

يقول بنيامين نتنياهو: “أعتقد أن لدينا اليوم فرصة خاصة للحديث، أود أن أسمع رأيكم، ولنرَ كيف يمكننا جمع القوة من أجل السلام والحياة الهادئة”، مشيراً إلى أن “العلاقات بين إسرائيل وروسيا أصبحت الآن أقوى وأفضل من أي وقت مضى”، هذا الكلام كان موجهاً لـ فلاديمير بوتين خلال زيارة نتنياهو لموسكو.

تساؤلات عدة مطروحة حول تغيرات في الموقف الروسي من القضية الفلسطينية. وفي حين ان الخارجية الروسية عبرت مراراً أن “لا تغييرات جذرية في الموقف الداعم لتسوية على أساس القرارات الأممية والتفاوض المباشر بين الطرفين”، والمعروف أن المواقف الروسية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي ولغاية الآن تعبر عن مواقفها باتجاه القضية الفلسطينية بما أهو أقرب للمصلحة الصهيونية من القضايا العربية، فموسكو ليست في وارد القيام بأي ضغوط على الحكومة الإسرائيلية لدفعها إلى التسوية. كما أنها لا تسعى الى الضغط على الدولة الصهيونية لما تجده مضراً لسياستها تجاه التقريب مع الغرب في ملفي أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية،والملف السوري وغيرها من الملفات العالقة في الخارجية الروسية.

ويخطىء من يظن بأن فلاديمير بوتين على استعداد لنصرة القضية الفلسطينية على حساب قضاياه في محيطه الأقرب لـ روسيا ويكفي أن تعدد أزمات جورجيا وأوكرانيا وأذربيجان وأرمينيا وآخرها أزمة “ناغورنو قره باغ”، ومحاولات الضغط على روسيا واشغالها بمشاكل محيطها وربما المقايضة مع الولايات المتحدة حول حل قضايا المنطقة المحيطة به على حساب القضايا الأخرى ومنها القضية الفلسطينية.

نعم قد تكون الأزمة السورية، من أهم الملفات الخارجية الروسية نظراً للعلاقات التاريخية بين البلدين ولوجود قاعدة عسكرية أساسية ووحيدة في المنطقة تجعلها في سلم اولوياتها، ولهذا تجد الاهتمام على أعلى المستويات في روسيا لأن المصلحة تقتضي الدفاع عن مصالح روسيا في سوريا أكثر من الدفاع عن النظام السوري.

القاسم المشترك بين كل من فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، والرئيس بشار الأسد، وبنيامين نتنياهو كل على حدة بهذا التناقض الحاد مع كل رئيس لا يجمعه بهم الا المصلحة الروسية العليا والتي لا تألو جهداً بتصغير الكبائر وتكبير الصغائر فقط لايجاد ثغرات تنفذ منها لتحقيق غايتها، فالغاية تبرر الوسيلة في عقل بوتين أيضاً.


يقول ألكسندر دوغين الفيلسوف والمفكر الروسي والذي يعتبر دماغ فلاديمير بوتين: “الليبرالية الحديثة هي أيديولوجيا توتاليتارية بالكامل تعمل وفق نمط وأساليب سوفياتية/غوبلزية: أيا كان ذلك الذي يتحدى السردية الليبرالية العولمية فهو إما “فاشٍ” وإما “شيوعي”. ولفهم طبيعة الإيديولوجية “الأوراسية الجديدة” التي باتت تحظى بقبول في أوساط واسعة من النخبة السياسية والإعلامية والفكرية في روسيا بما فيها الرئيس فلاديمير بوتين. ولا يمكن سبر أغوار هذه الإيديولوجيا من دون قراءة أفكار ألكسندر دوغين، مؤسس “الحركة الأوراسية” في روسيا، الذي يُحدد في محور نظريته الجيوسياسية، أن مهمة روسيا تتمثّل في تحدّي هيمنة الولايات المتحدة على العالم، داعيًا إلى تعبئة شعوب أوراسيا (أوروبا آسيا) بقيادة روسيا، بما في ذلك جمهوريات الاتحاد السوفييي السابق وألمانيا وأوروبا الوسطى والشرقية، للتحالف مع تركيا وإيران، وإقامة تحالف “طبيعي” مع الإسلام لضمان وصول الروس لموانئ المياه الدافئة”. (نواف التميمي).
ولفهم طريق تعامل موسكو مع الكيان العبري لا بد من التذكير بأن العلاقة الروسية مع اليهود تحديداً على مر التاريخ كانت علاقة خصومة ومعاداة منذ ما قبل العام 1791م ولما بعد الثورة البلشفية 1917م. ففي العام 1791 أمرت كاترينا الثانية “بجمع كل اليهود في منطقة واحدة، وإجبارهم على العيش فيها، من دون السماح لهم بالخروج من هذه المناطق والاختلاط مع الآخرين، حتى لا يفسدوا أخلاق الآخرين”. واستمرّ هذا الوضع حتى العام 1881، وساء الوضع معهم أكثر بعدما تكشف دورهم في اغتيال القيصر نيكولا الثاني. واستمرّ هذا الوضع إلى أن وقعت تمرّدات العمال والكادحين ضد القياصرة، فانضمّ اليهود بكثافة إلى هذه التحركات التي انتهت بثورة لينين في تشرين الأول/أكتوبر 1917، إلى درجة أن اليهود كادوا يسيطرون على قيادة الثورة، فتخلّص منهم لينين بذكاء. ورغم ذلك، استفادوا من روح الثورة، فزاد عددهم بشكل سريع في الدوائر الحكومية والجامعات والجيش، ليصل إلى حوالى 30% تقريباً. وفي بدايات الثورة، كان وزراء الدفاع والمالية والخارجية من اليهود. (المصادر).

ويقول الكاتب د. حسني محلي: “قرَّر ستالين الحد من عدد العاملين اليهود في الجامعات والجيش والمناصب الحسّاسة، كما قرّر أن لا تتجاوز نسبتهم 8% من مجموع العاملين، ثم قرر في العام 1928 إنشاء “منطقة حكم ذاتي لليهود بالقرب من الحدود مع الصين”، بعد أن قال عنهم “إنهم لا يملكون مقومات الأمة، لأنهم مجموعات ذات أعراق مختلفة يجمعهم الدين فقط”. واستمرّت مواقف ستالين هذه ضد اليهود حتى اقتراب موعد قيام “دولة إسرائيل”، التي اعتقد ستالين أنها قد تصبح شيوعية بسبب هجرة اليهود الروس إليها بكثافة، وهو ما دفعه إلى تأييد قرار التقسيم والاعتراف بـ”إسرائيل”، التي أرسلت غولدا مائير أول سفيرة لها في موسكو، نظراً إلى أهمية روسيا في حسابات يهود العالم. ومائير ذات أصل أوكراني، غادرت إلى أميركا وعمرها 6 سنوات، حيث درست وعملت فيها وأصبحت مواطنتها. ولم يساهم ذلك في إقناع يهود روسيا بالسفر إلى “إسرائيل” التي وصلها خلال الفترة الممتدة بين العام 1948 و1967، 16637 يهودياً روسياً فقط، فيما كان العدد في السنوات التي سبقت قيام الدولة العبرية 10 أضعاف هذا الرقم، إذ غادر حوالى مليون يهودي روسيا اعتباراً من العام 1870، ولكن معظمهم سافر إلى أوروبا، ومنها إلى أميركا. ومع تخفيف قيود الهجرة من روسيا في العام 1968 تحت الضغوط الأوروبية والأميركية، غادر 375 ألف يهودي روسيا إلى “إسرائيل” حتى العام 1978، وانضم إليهم حوالى 850 ألف يهودي آخر غادروا روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ليشكل اليهود الروس حوالى ربع سكان “إسرائيل” حالياً”. وهذا الموقف الروسي تجاه تل أبيب، لأن لديهم ثقل كبير جداً في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولهم إذاعاتهم ونواديهم وصحفهم وأماكن تجمعاتهم، لأنهم يتكلّمون اللغة الروسية، وما زالوا يحملون الجنسية الروسية، حالهم حال حوالى 500 ألف يهودي يعيشون في روسيا ويتنقلون من وإلى “إسرائيل”، مثل أقربائهم المقيمين في “إسرائيل”، وفيها الكثير من رجال الأعمال الكبار ذوي الأصل الروسي، وهم امتداد لرجال أعمال يهود كبار مؤثرين في روسيا، والبعض منهم من أصول أذربيجانية وأوزبكستانية. ويبدو واضحاً أن بوتين لا يريد أن يقطع علاقاته معهم جميعاً، إذ شنّ حملته المعروفة ضدهم بعد استلامه السلطة في العام 1999 عندما أرادوا محاصرته، فانقضّ عليهم، وتخلّص من عصاباتهم المالية الخطيرة التي لطالما خلقت المشاكل لروسيا خلال جميع مراحل التاريخ المختلفة، وما زالت كذلك. وبوتين الآن في مصالحة حساسة وذكية معهم، لأنه لا يريد أن يخسر “إسرائيل” بثقلها ودورها، إضافة إلى دور منظمات اللوبي اليهودي في أميركا والعالم أجمع، في ظل غياب عنصر التوازن العربي، الذي لو كان موجوداً لساعد موسكو في مواجهة هذه المنظمات، كما هو الحال في الموقف الروسي مع تركيا، التي تمتلك موسكو علاقات وحسابات استراتيجية مهمة معها، ولا يمكن التضحية بها من أجل سوريا أو أي بلد عربي على انفراد. وتفسّر كل المعطيات أعلاه موقف بوتين تجاه “إسرائيل” وعدم التصدي لاعتداءاتها على سوريا، بل وحتى إسقاطها الطائرة الروسية قرب اللاذقية في 18 أيلول/سبتمبر 2018.

ولم يكن هذا الحادث كافياً لإقناع موسكو بضرورة تسليم دمشق صواريخ “أس 300″ و”أس 400” لتساعدها على التصدي للطائرات الإسرائيلية التي تصول وتجول في الأجواء السورية، بحجة استهداف مواقع حزب الله وإيران، وهي حليفة لروسيا في سوريا، لتكون المصالح الروسية مع “إسرائيل” وتركيا، هي القاسم المشترك لسياسات بوتين في المنطقة التي دخلها عبر البوابة السورية، ولولاها لما كان لروسيا موطئ قدم في البحر الأبيض المتوسط.
ولولاها أيضاً لما حقّق كل هذه المصالح الاستراتيجية إقليمياً ودولياً في العلاقة المتشابكة مع الرئيس إردوغان. والأخير، حقق معظم أهدافه في سوريا بضوء أخضر روسي، على الأقل حتى الآن، وهو ما كان سبباً للعديد من التساؤلات والانتقادات التي حملت موسكو مسؤولية العديد من سلبيات الواقع السوري، بانعكاساته على الضغوط الدولية التي تستهدف الدور والتواجد الإيراني في سوريا، بحجة أن هذا التواجد يستهدف أمن “إسرائيل” التي لا يريد أحد، بمن فيهم أنظمة الخليج، أن يتذكروا أنها، أي “إسرائيل”، وليست إيران أو حزب الله، تحتل أراضي سوريا التي تآمر عليها الجميع إقليمياً ودولياً، فتصدّت لهم روسيا في جميع المحافل والمجالات!

تقول آنا بورشفسكايا هي زميلة “آيرا وينر” في معهد واشنطن في معرض تحليلها للموقف الروسي تجاه ايران في المنطقة : منذ البداية، كانت استراتيجية روسيا حيال سوريا مبنية على الشراكة مع إيران؛ وبالفعل، تجنّبت موسكو الدخول في مأزق هناك، ويعود السبب جزئياً إلى إمكانية اعتمادها على وكلاء طهران من أجل تنفيذ الأعمال الصعبة.

ومنذ أن بدأت موسكو تدخلها في سوريا للمرة الأولى، أبلغ نتنياهو الرئيس الروسي بوتين مراراً وعلناً أن لدى إسرائيل مخاوف أمنية كبيرة بشأن التوسّع الإيراني. لكن على الرغم من الإقرار بهذه المخاوف، بقي بوتين حذراً حيال القيام بأي شيء فعلياً لتبديدها، على الأقل في العلن. وعادةً ما تصف وسائل الإعلام الروسية هذه المحادثات بنبرة محايدة، رغم أن أحد أعمدة صحيفة “كوميرسانت” الروسية اليومية التجارية الصادر في عام 2017 أشار بوضوح إلى أن أكثر ما يمكن أن يقدمه بوتين لنتنياهو هو “مساعدة نفسية” – أي الإصغاء باهتمام إلى مخاوفه بشأن سوريا دون اتخاذ أي خطوة. وبالمثل، شدّد لافروف وغيره من المسؤولين مراراً وتكراراً على أن إيران هي جهة فاعلة مستقلة، وأن روسيا بمفردها لا يمكنها إرغامها على الخروج من سوريا.

الخلاصة: بوتين يسعى الى استغلال كل صغيرة وكبيرة في المنطقة كي يثبت أقدامه ويحقق حلمه باعادة الاعتبار لموقع روسيا في العالم من خلال منطقة الشرق الأوسط والتي تعتبر أهم المناطق الحيوية للموقع الاستراتيجي التي تمثله ولما تحتويه من ثروات نفطية وغازية وخط مرور وسط استراتيجي في العالم. والمشروع الأوراسي الذي دعا إليه ألكسندر دوغين هو في صميم أفكار وسياسة فلاديمير بوتين، ويعتبر أن احتواء هذه المنطقة هو ركيزة أساسية لتحقيق “أوراسيا” على المدى البعيد، والذي يعتبره المدى الحيوي لاحكام السيطرة وتقاسم النفوذ مع الدولتين الكبريين الإمبراطورية الأميركية والتنين الصيني”. فالمصلحة الروسية تتلون وتتبلور وفق الحسابات الآنية الظرفية لكل عقدة وكل مشكلة على حدة وفيما تراه مكمل لمشروعها الأساس. فإذا كانت مصلحتها في دعم الموقف “العبري” فلن تتوانى عن ذلك ولكن “تحت الطاولة” وأيضا على المستوى الفلسطيني تراها تدعم مواقف المقاومة الفلسطينية تارة ومواقف رأس السلطة الفلسطينية تارة أخرى طالما أن لا مشكلة في ذلك. فالمهم هو المصلحة “الأوراسية”.

الكاتب أكرم ناظم بزي

الكاتب والباحث السياسي أكرم ناظم بزي، صحافي وباحث لبناني، يكتب في الأدب والسياسة والعلاقات الدولية، لديه العديد من الأبحاث والمقالات، وفي الصحافة اللبنانية والعربية، لا سيما في دولة الكويت وهو عضو نقابة الصحافة اللبنانية، وجمعية الصحافيين الكويتية 2002، (شارك قي اعداد موسوعة العلوم السياسية لجامعة الكويت)، وعضو نقابة مخرجي الصحافة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى