الاحدثدولي

طهران بلسانين… وواشنطن بفعل واحد؟ | كتب د. محيي الدين الشحيمي

ينتظر العالم بأسره نتائج الجولة من المفاوضات الإيرانية– الأميركية. ينتظر إشاراتها ونتائجها. ويترقّب مسارها. وقد تبتعد إيران عبرها عن عتبة التخصيب النووي. طبعت هذه المفاوضات نسقيّات مختلفة وظرفيّات مستجدّة. ترتسم لقاءاتها على الشكليّات الفاقعة. ويغيب عنها المضمون البنّاء الموحّد. تفوح من خلالها رائحة انعدام الثقة.

تزيد من تعقيدها حالة انعدام الثقة في طهران وازدواجية القرار، وصراع المدارس الثورية والمؤسّسات الرسمية تحت عباءة المرشد. فيما أميركا “الترامبيّة” ترقص. تمدّ يدها للتعاون والشراكة وتتغوّل. تهدّد الصديق قبل الخصم والعدوّ. وتنذر بإخباريّات غير مسبوقة في التاريخ الأميركي والدولي.

تدخل إيران هذه المفاوضات بعد طوفان أطاح بأغلب وزناتها وبعثر ساحاتها غير العجميّة، وأضعف كلّ متشعّباتها غير الطبيعية في العواصم العربية وجفّف نفوذها السوري. تخوض إيران مخاضها مع خسارة كلّ رهاناتها الإقليمية. يمكن للخمينيّين أن يحصلوا على برنامج نوويّ مدني بسيط ونظام قويّ. لكن هل ممكن أن تبقى ميليشياتهم هي هي، فيما إيران الخميني ومؤسّساتها وحرسها الثوري مسيطرون على البلاد؟

إذا كان هدف اللقاءات هو التزام عدم بلوغ الكعكة النووية العسكرية، فالتالي هو العودة إلى اتّفاق باراك أوباما. فهل تكون صيغته مختلفة؟ وما الذي يجب فعله لتحقيق الهدف الحقيقي من المفاوضات؟ هل تتمخّض عن هذه المفاوضات نتيجة واحدة؟ أو ستكون لها عدّة سيناريوهات؟

تفوح في هذه المفاوضات تعابير دعائية مصدرها لسان الملالي، فيما يأتي الكلام الجدّي من هذا الحوار عبر لسان واحد، وهو الأميركي فقط. لقد وجّه دونالد ترامب أوامره الجوهريّة للوفد الأميركي، وهي:

  • تخطيط الرئيس الأميركي لعقد اجتماع شخصيّ ومباشر مع الرئيس الإيراني أو حتّى مع المرشد يكون شبيهاً للّقاء الذي ضمّه ورئيس كوريا الشمالية، أو لزيارة ريتشارد نيكسون للصين.
  • التفكيك الشامل للبرنامج النووي الإيراني بالاعتماد في ذلك على نموذج تفكيك البرنامج النوويّ الليبي.

الصّفقة أفضل من البديل

مُقتنعٌ ترامب بأنّ إبرام صفقة مع إيران أفضل بكثير من البديل، أي الضربة العسكرية. تهدف إدارته إلى الرجوع ببرنامج إيران النووي إلى نقطة لا يستطيع فيها أن ينتج نفسه ويكتسب القدرة على التخصيب. تعدّ إيران- خامنئي، بعد سنة من حرب غزة وتشتّت أذرعها وخسارة مربّع ساحاتها الذهبي في سوريا، الأكثر استعداداً للتحدّث مع إدارة ترامب بجدّية أكثر من ذي قبل. فقد تراكمت تأثيرات سلبية عديدة بسبب العقوبات وضعت الاقتصاد الإيراني في قالب حرج، لا سيما أنّ إيران الحالية هي الأكثر ضعفاً منذ قيام الثورة الخمينيّة في عام 1979.

يضع الرئيس الأميركي في حسابه فرضيّة مؤثّرة تفيد أنّه على الرغم من كلّ حالات التراجع التي عصفت بإيران الإقليمية بعد حرب أكتوبر الثانية وضرب “الحزب” وسقوط نظام الأسد وقطع طريق الملالي السريع (طهران – بيروت)، ما تزال تحتفظ بالقدرة على إفساد المناخ الاستقراريّ الأمنيّ والعبث أيضاً بفوضويّة مؤذية وإلحاق المزيد من الأضرار، التي تستطيع عبرها متابعة استعراضاتها في تنفيذ الضربات الإقليمية وشلّ الحركات الملاحية الدولية. وقد تلجأ طهران إلى احتمال استهداف البنية التحتية النفطية في المنطقة، الأمر الذي يؤدّي إلى أزمة كبرى.

وضعيّة ترامبيّة فريدة

يسعى ترامب إلى نسج وضعيّة فريدة لنفسه. يريد أن يجعل من نفسه الرئيس الأميركي الذي لا يقارَن. يحشد المزيد من دعم المتطرّفين الأميركيين والمتشدّدين لخطّته من حيث العلاقة مع إيران ومع المتوجّسين من حصول أيّ اتفاق.

يحاول في هذا السياق إعادة مشهديّة رئاسية أميركية قديمة. يتابع تقليد الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون في العلاقة مع الصين، والتحكّم بالظروف وتكرارها إيرانيّاً، لا سيما تلك التي ساهمت وقتذاك في إنجاح الزيارة للصين وتحسين العلاقات بين كلّ من بكين وواشنطن. يحاول التوصّل إلى لقاء مع الرئيس الإيراني وربّما مع المرشد مقابل تدوير الزوايا المتصلّبة والعقوبات القصوى وتجميد النشاط النووي العسكري والاتّجاه إلى نوويّ سلميّ بتعاون أميركي.

إذ يريد ترامب انتزاع الموافقة الإيرانية على أنّ تبني واشنطن المفاعلات النووية للاستخدامات السلمية والطاقة النظيفة في مقابل تفكيك الخبراء الأميركيين أنفسهم مراكز التخصيب الثقيل الحالية، وأن لا تُستعمل الأموال المنتظر الإفراج عنها في بناء الترسانة البالستية أو في تمويل الأذرع والنفوذ المهدّد من جديد.

الاتّفاق حاجة

تحتاج إدارة ترامب إلى هذا الاتّفاق بالتوازن مع حاجة إيرانية ماسّة إليه. تجتهد الأولى في تقديم أمر مميّز للعالم والشعب الأميركي، فيما يتمسّك به الملالي لكي يهربوا من مأزقهم لأنّ البديل هو الكارثة غير المشهودة. تلتصق الليونة الإيرانية بثوابتها المقدّسة التي يتمحور مضمَرُها الدمث على ما تحسبه طهران من أقداس الدعامات العقائدية الفقهية. يشكّل النووي مدخله الاستراتيجي، فهل تستطيع المساومة عليه؟

الحفاظ على النظام

تريد إيران الحفاظ على نظام دولتها ومرجعيّة الوليّ الفقيه والحصول على النوويّ السلميّ ليكون حدّاً أقصى من الاستسلام من دون ولوج سوق عرض وطلب الصواريخ البالستية. فيما تركّز أميركا من منطق معاكس على ليونة تتجلّى أكثر كلّما ابتعدت إيران عن الشهوات النوويّة.

تعمل واشنطن على تجفيف إيران وتعدّياتها خارج الجغرافيا الإيرانية بشكل شامل. تريد تشحيل كلّ ما يدور في فلك الفكر التوسّعي الإمبراطوريّ الفارسي، وتحويل إيران إلى دولة بسيطة تقبل بحصر سرديّة ولاية الفقيه والثورة فيها بالمجتمع الإيراني الداخلي. فهل تستطيع إيران الرضوخ لذلك؟

هنالك مفاوضات تؤسّس لحرب، وهنالك حرب تؤسّس لحلّ ومفاوضات، لا سيما أنّ الحوار أمر والتوصّل إلى اتّفاق شيء مختلف. فهل تكون هذه المفاوضات هي التي تبني الدولة الجديدة في إيران؟ أم هي التي سوف تهدم القديم والحاليّ من دون بديل وتنذر بالجحيم؟!

د. محي الدين الشحيمي، استاذ في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا

الدكتور محي الدين محمود الشحيمي، دكتوراه في القانون جامعة باريس اساس في فرنسا. عضو لجنة التحكيم في مدرسة البوليتكنيك في باريس. محاضر في كلية باريس للاعمال والدراسات العليا واستاذ زائر في جامعات ( باريس 2 _ اسطنبول _ فيينا ). خبير دستوري في المنظمة العربية للقانون الدستوري مستشار قانوني واستراتيجي للعديد من الشركات الاستشارية الكبرى والمؤسسات الحكومية الفرنسية كاتب معتمد في مجلة اسواق العرب ومجلة البيان والاقتصاد والاعمال ومجلة الامن وموقع الكلمة اونلاين . رئيس الهيئة التحكيمية للدراسات في منصة الملف الاستراتيجي وخبير معتمد في القانون لدى فرانس 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى