في الأسبوعِ الذي أصبحَ من الواضح أنَّ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سيعود إلى البيت الأبيض، ركّزَ الكثيرُ من المناقشات حول ما إذا كان الرئيسُ المُنتَخَب راغبًا وقادرًا على الوفاء ببعضِ وعود حملته الانتخابية الأكثر تطرُّفًا. لقد فاجأ فوزُ ترامب في انتخابات العام 2016 الولايات المتحدة والعالم، وحتى ترامب نفسه، وفقًا لبعض الروايات، كما أدّى افتقاره يومها إلى أيِّ قاعدةِ قوةٍ حقيقية داخل النُخَبِ السياسية في الحزب الجمهوري إلى تعقيدِ جهوده في متابعة أجندته السياسية المتمرِّدة خلال ولايته الأولى.
على النقيضِ من ذلك، فإنَّ القبضة المُحكَمة التي يمارسها الآن على الحزب الجمهوري، إلى جانب القائمة الأعمق بكثير من الموظّفين المًتَحمّسين تحت تصرُّفِهِ لإدارة حكومته المقبلة، أقنعت العديد من المراقبين بأنه سيكون في وَضعٍ أفضل لمتابعةِ وتنفيذِ أهدافه الاستبدادية في السياسة الداخلية والخارجية. ولكن حتى مع احتفالِ أنصار حركة “جَعل أميركا عظيمة مرة أخرى” (ماغا) بلحظةِ انتصارهم، فإنَّ النظرَ عن كَثبٍ إلى التوتّراتِ والتناقُضات الداخلية للحركة يُشيرُ إلى أنه بدلًا من فَرضِ نظامٍ استبدادي، من المرجح أن يكونَ ترامب الذي عاد إلى الحياة السياسية مرة أخرى وكيلًا للفوضى.
خلال الحملة الانتخابية الرئاسية، رَكّزَ معارضو ترامب الديموقراطيون على مشروع 2025 –أجندة سياسية استبدادية أنتجتها مؤسسة بحثية قريبة من حركة “ماغا”- الذي سلّطَ الضوءَ على التيارات الفاشية داخل شبكات النُخبة التي مَكّنت ترامب من العودة إلى السلطة. وقد أصبحَ المدى الذي ستؤثر به النزعة القومية الصريحة وازدراء سيادة القانون في أجندة ترامب واضحًا بالفعل في تعيينِ شخصياتٍ قريبة من أقصى اليمين في مناصب إدارية رئيسة، مثل مات غايتس لوزارة العدل وستيفن ميلر رئيسًا لهيئة الأركان للسياسات وتوماس هومان رئيسًا لسياسة الهجرة وأمن الحدود. إنَّ خططهم لترحيلِ ملايين المهاجرين، فضلًا عن تنفيذِ إجراءاتٍ قمعية ضد المجرمين والتهديدات السياسية المزعومة للأمن القومي، هي مؤشّرٌ إلى المدى التي ستتشكّل فيه السياسة الداخلية الأميركية على مدى السنوات الأربع المقبلة من خلال التحوُّل الاستبدادي الذي سوفَ يتمتّعُ بدعمِ ترامب الكامل.
وعلى نحوٍ مُماثل، أظهرت حملة ترامب في الفترة التي سبقت يوم الانتخابات وضوحًا مُبَسَّطًا للغاية عندما يتعلّقُ الأمرُ بتحديات السياسة الخارجية التي تواجه واشنطن، سواءَ كانت مزاعم بأنَّ غزو روسيا لأوكرانيا يُمكنُ أن ينتهي بسرعة من خلال براعة ترامب في عَقدِ الصفقات، أو التهديدات بفرضِ رسومٍ جمركية على السلع المُستَورَدة لتقويضِ القدرة التنافُسية الاقتصادية للصين. ومنذُ فوزه، يواصل ترامب وأعضاء فريقه للسياسة الخارجية الإصرارَ على أنَّ هيمنته الحالية على السياسة الأميركية يُمكِنُ أن تضعه في وَضعٍ فريدٍ لإعادةِ تشكيلِ النظام العالمي. وفي حين أنَّ احتمالاتَ سعي ترامب المُنطَلِق نحو تحقيق غرائزه الاستبدادية والانعزالية تُثيرُ قلقًا عميقًا لدى حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا ومنطقة المُحيطَين الهندي والهادئ، فإنَّ طموحاته لترحيلِ ملايين المهاجرين غير الشرعيين المُفتَرَضين، فضلًا عن مزاعمه بأَّنَّ إدارته لن تتورَّعَ عن شنِّ حربٍ ضدّ عصابات المخدّرات في المكسيك وعبر أميركا اللاتينية، من الممكن أن تؤدّي إلى زعزعةِ استقرارِ نصف الكرة الغربي بشكلٍ عميق.
ولكن إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من تهديدات ترامب العنيفة والميول الفاشية بين العديد من أفراد دائرته الداخلية، فإنَّ سجلّه الحافل خلال فترة ولايته الأولى في منصبه، إلى جانب التوتّرات المَرئية بين الفصائل النخبوية التي مَكَّنَت عودته إلى الرئاسة، تُشيرُ إلى أنَّ إدارته قد تنتهي إلى مسارٍ مُختَلف عن المسار المرسوم في الأوهام الاستبدادية لأنصاره الأكثر حماسة. وبصرفِ النظرِ عن مدى محاولة فريق ترامب الجديد الإشارة إلى أنه يتمتّعُ بقبضةٍ مُحكَمَةٍ على عملية التخطيط السياسي والتعيين، فإنَّ جهله المُتقلِّب والعلامات التي تشير إلى أنَّ عملية الشيخوخة أثّرت قي قدراته العقلية تزيد من احتمالية أن يبدأ مرة أخرى إقالة كبار المسؤولين بانتظام وعكس مسار السياسة، وهي الميول التي شلّت في بعض الأحيان الحكومة الأميركية خلال فترة ولايته الأولى. لكن ما زال تقلُّبُ ترامب وتناقضاته الفكرية قادِرَين على تأجيجِ الصراعات الداخلية المريرة بين مراكز القوى المتنافسة داخل إدارته، مما يزيد من احتمالات فشل ولايته الثانية في تلبيةِ توقّعات مؤيديه المُتحمّسين وأعمق مخاوف خصومه، تمامًا كما فعلت ولايته الأولى.
إنَّ الضغوطَ الطاردة المركزية التي قد تدفعُ إدارة ترامب إلى تغييراتٍ مُستمرّة في المسار هي أيضًا نتاجٌ للاختلافات الأوسع بين الفصائل المُتَمَيِّزة التي تُشكّلُ تحالفَ النخبة الجمهوري المؤيد لحركة “جَعِل أميركا عظيمة مرة أخرى”. وكما أشار جيمس بوسوورث، الخبير بتحليل المخاطر السياسية والأبحاث المُخَصَّصة في الأسواق الناشئة والحدودية، هناكَ انقساماتٌ ضخمة من حيث النظرة الإيديولوجية وكذلك المصلحة الذاتية بين شبكات النخبة المُتنافِسة هذه حول قضايا أساسية مثل ما إذا كان ينبغي إعطاءُ الأولوية للوصولِ إلى أسواق التصدير أو التعريفات الجمركية الوقائية؛ وما إذا كان ينبغي تأكيد القوة العسكرية الأميركية في نقاطِ الاشتعالِ الجيوسياسية؛ وما إذا كان ينبغي التركيز على النموِّ الاقتصادي أو الترحيل الجماعي للعمال المهاجرين اللازمين لدعمه. ومع استمرارِ الضغوطِ الجيوسياسية والاقتصادية في التراكم، فإنَّ هذه الشقوق الفصائلية قد تؤدّي إلى معارك بيروقراطية للسيطرة، وحتى إلى انشقاقاتٍ بين المُشَرِّعين الجمهوريين في الكونغرس الذين يشعرون بأنَّ احتياجات ناخبيهم، وبالتالي مصالحهم السياسية الشخصية، تمَّ تجاهلها من قبل قيادةٍ غير مُنتَظِمة.
وسوفَ يزدادُ هذا الشلل الإداري والتشريعي سوءًا إذا نفّذَ فريق ترامب تهديده بطرد عشرات الآلاف من الموظفين المدنيين البيروقراطيين في إدارات الحكومة الفيدرالية، والذين يعتبرهم الجمهوريون من أنصار “جعل أميركا عظيمة مرة أخرى” غير مُخلِصين بطبيعتهم. وبعيدًا من التغيير المُعتاد الكبير في المُعَيَّنين السياسيين، فإنَّ أيَّ جُهدٍ أوسع نطاقًا لفَحصِ مُحلّلي الاستخبارات والموظّفين المدنيين والضباط العسكريين على أُسُسٍ إيديولوجية من شأنه أن يدفعَ العديدَ من المسؤولين الأكثر خبرةً إلى القطاع الخاص أو التقاعد المبكر. ومن شأنِ موجةٍ أوسع من عمليات الفصل الجماعي التي تُدَمِّرُ الإدارات ووكالات إنفاذ القانون بأكملها أن تُضعِفَ قدرة مؤسّسات الدولة الأميركية على القيامِ بأيِّ شيءٍ يتجاوزُ المهامَ الروتينية.
إنَّ مثلَ هذا الصراعَ المُزمن في البيت الأبيض والكونغرس، إلى جانب تحطيم مؤسّسات الدولة، لن يَكبَحَ جماحَ أولئك الموالين لترامب الذين يرغبون في متابعة سياساتٍ استبدادية وعنصرية. إنَّ العصرَ الذي تغرقُ فيه غالبية الحكومة الأميركية في الفوضى قد يمنحَ أصحابَ المشاريع السياسية والمقاولين العسكريين ذوي المكانة الجيدة المجال لاختطاف ما تبقّى من دولة الأمن القومي لتنفيذِ برامج الترحيل الجماعي والعمليات العسكرية القاتلة ضدّ عصابات المخدّرات التي طالبَ بها ترامب بصوتٍ عالٍ خلال الحملة الانتخابية. وإذا كان تكديس القضاء بالموالين للجمهوريين والشلل في معظم بيروقراطية الدولة يُضعِفُ الضوابطَ على قدرةِ الشرطة وأجهزة الاستخبارات على استهدافِ أيِّ شخصٍ يُعلنه ترامب عدوًّا للدولة، فإنَّ العديدَ من الناس في الولايات المتحدة وكذلك في البلدان المجاورة لها سيكونون عُرضةً للقمع العنيف من قبل جهاز الأمن القومي الأميركي الخارج عن السيطرة.
وفي حين أنَّ العواقبَ المحلّية المُترتّبة على حكومةٍ فيدرالية أميركية مشلولة بسببِ الصراعاتِ الداخلية يُمكنُ احتواؤها في البداية على الأقل من خلال النمو الاقتصادي المُستَمِر وإدارة الأزمات من قبل المؤسسات الإقليمية، فإنَّ مثل هذه الفوضى من شأنها أن تُخلِّفَ بسرعةٍ تأثيرًا مُزعزِعًا للاستقرار على النظام العالمي. في مواجهةِ التناقُضِ الاستراتيجي لواشنطن والضغوط المتزايدة من الخصوم الاستبداديين مثل روسيا والصين وإيران، فإنَّ حلفاءَ الولايات المتحدة الحاليين في أوروبا ومنطقة المُحيطَين الهندي والهادئ سوف يُسرعون إلى إعادةِ تسليح دولهم وبرامج التحديث العسكري، في حين يسعون إلى حماية مصالحهم بطُرُقٍ لم تَعُد تأخذُ أولويات واشنطن في الاعتبار. وفي سياقٍ جيوسياسي مُتقلِّب، فإنَّ مثلَ هذه الخسارة في المصداقية والهَيبة، اللتين لا يزال صنّاع السياسات في الولايات المتحدة يعتبرونهما أمرًا مفروغًا منه، من شأنها أن تُقلّل من نفوذ الولايات المتحدة خارج نصف الكرة الغربي.
على الرُغمِ من أنَّ هذه الاتجاهات من شأنها أن تضعَ الاتحاد الأوروبي واليابان تحت ضغوطٍ هائلة، فإنَّ الدول في نصف الكرة الغربي سوف تكون الأكثر تعرُّضًا للفوضى والتصعيد الذي أطلقته إدارة ترامب. وبالنسبة إلى معظم الشركات الكندية والمكسيكية، فإنَّ الاعتمادَ العميق على الوصول إلى الأسواق الأميركية يعني أنَّ أيَّ زيادةٍ في الحواجز الجمركية أو الاضطراب الاقتصادي في الولايات المتحدة من شأنهما أن يُخلّفَا آثارًا مُدَمِّرة للغاية. في المكسيك ودولٍ أخرى حول أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، فإنَّ الترحيلَ الجماعي لملايين الأشخاص من الولايات المتحدة من شأنه أن يُخلِّفَ آثارًا اجتماعية واقتصادية مُزعزِعة للاستقرار إلى حدٍّ كبير. والسيناريو الذي تتشابك فيه مثل هذه الضغوط الاقتصادية والهجرة مع العمليات العسكرية الأحادية الجانب ضد عصابات المخدرات من قِبَل دولة أمنية أميركية خارجة عن السيطرة، من شأنه أن يُلحِقَ ضررًا لا يُمكن إصلاحه بالاستقرار الإقليمي.
وفي حين أنَّ الجهودَ المُنضَبطة لفرضِ الاستبداد على المجتمع الأميركي من شأنها أن تُشَكِّلَ خطورةً بالغة على مستقبل الجمهورية الأميركية، فإنَّ الاقتتالَ الفصائلي الفوضوي وتدميرَ مؤسّسات الدولة تحت قيادة ترامب من شأنه أن يُخلّفَ آثارًا ضارة بالقدر عينه. وحتى إذا استعادَ الديموقراطيون أو الشخصيات المعتدلة في الحزب الجمهوري السلطة بعد رحيل ترامب، فإنَّ مثلَ هذا الاضطراب الشديد في الأُسُس الأساسية للدولة الفيدرالية من شأنه أن يُعيقَ بشكلٍ كبير أيَّ جهودٍ لاستعادةِ الاستقرار في الداخل والقوة في الخارج، مما يترك صنّاع السياسات يكافحون لاحتواء “المذبحة” لفترةٍ طويلة بعد رحيل ترامب.