كوفيد – ١٩ يعيد رسم الجغرافيا السياسية للعولمة | اليسار كرم
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
أزمة إستثنائية يعيشها الاقتصاد العالمي لـسببٍ طرأ من خارج الأسواق المالية ومن خارج نظام العولمة ومن خارج العوامل الموضوعية التي يمكن قياس نتائجها. السبب هو جائحة الفيروس التاجي الجديد COVID-19 التي انطلقت من الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وعطّلت النشاط الاقتصادي في الدول التي باتت شبه معزولة بعضها عن بعض، ما شكّل امتحاناً لسلاسل التوريد العالمية وصدمةً لأسواق المال والشركات وكبار المستثمرين الذين يواجهون أصلاً بوادر أزمة ركود.
أزمة الرّكود
“كنا نتفحّص الصدمات المحتملة في الأفق نظرا لهشاشة النظام المالي القائم منذ عام 2008 إلا أن أحداً لم يتوقع ما يحدث الآن” بهذه الكلمات عبّر ريتشارد كوزيل رايت، رئيس قسم العولمة والاستراتيجيات التنموية في منظمة “أونكتاد”، عن حالة عدم اليقين التي تسيطر على الاقتصاد العالمي. “أونكتاد” أصدرت دراسة أشارت فيها إلى احتمال أن يشهد العالم ما يُعرف بـ “لحظة مينسكي” Minsky moment أي الانهيار الكبير والمفاجئ في قيم الأصول المالية التي هي جزء من دورة الائتمان أو دورة الأعمال، وتوقّعت انخفاضاً للنّمو العالمي هذا العام إلى أقل من 2.5% وعجزاً في الدخل العالمي بقيمة 2 تريليون دولار منها 220 مليار دولار في الدول النامية تحديداً.
فيروس كوفيد-19 الذي يفتك برئة الإنسان عندما ينتقل إليه من إنسان آخر، فتك أيضاً برئة الاقتصاد العالمي الذي تعطل تماماً بسبب حالة “الحجر” أو “العزل” الهادفة إلى الحدّ من تفشي العدوى التي لم يجد لها العلماء بعد أي علاج.
وأظهرت البيانات الأسبوعية لتدفقات الصناديق من “بنك أوف أميركا” أن عمليات بيع ضخمة في أسواق الأسهم أدت إلى تراجع حاد في كل فئة تقريبا،ً وسحب المستثمرون ما قيمته 20.7 مليار دولار من الأسهم مع نزوح 20.2 مليار دولار في يوم واحد فقط وهو مستوى قياسي، في حين سجلت صناديق السندات نزوحاً قياسياً بقيمة 109 مليارات دولار.
وفي تقرير آخر، أكد “بنك أوف أميركا ميرل لنش” أن الركود الناجم عن انتشار فيروس “كوفيد-19” أصبح أمراً واقعاً ولم يعد بالإمكان تجنبه، وحذر من فقدان الوظائف وتدمير الثروات ولا سيما في الولايات المتحدة مع فقدان ما يقرب من مليون وظيفة شهرياً خلال الربع الثاني من العام الحالي.
“كوفيد-19” الذي يفتك برئة الإنسان عندما ينتقل إليه من إنسان آخر، فتك أيضاً برئة الاقتصاد العالمي
ويشير صندوق النقد الدولي إلى أربع حالات ركود اقتصادي عالمي منذ عام 1960 حتى اليوم، هي تلك التي وقعت في أعوام 1975 و1982 و1991 إضافة إلى أزمة العام 2008 التي كانت الأطول والاكثر إنهاكاً للاقتصاد العالمي.
واللافت للإنتباه أن معهد التمويل الدولي توقع أن تدخل كل من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان في حالة من الركود الاقتصادي في النصف الأول من العام الحالي، على أن تشهد تعافياً في النصف الأخير منه إذا نجح العالم في الحد من انتشار الفيروس، وهذا يعني ان الركود قد يستمر حتى نهاية العام إذا لم يتم التوصل إلى علاج للفيروس.
إقتصاد الصين
لا يمكن تحديد حجم الأثر النهائي على الاقتصاد الصيني قبل انحسار تفشي فيروس كوفيد – 19 لكن ثمة مؤشرات تظهر أن النظام المالي الصيني مرن وجاهز لتقبل الصدمات.
تشير التوقعات الأولية إلى هبوط نمو الاقتصاد نقطتين مئويتين خلال الربع الأول من العام الحالي، ما يعني خسارة 62 مليار دولار تقريباً بسبب التعطل الكامل للنشاط الاقتصادي.
وبرغم ذلك، أكد نائب محافظ بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) أن التأثير السلبي للفيروس على الاقتصاد الصيني قصير الأمد ومحدود وأن بكين لديها أدوات كثيرة لإدارة الاقتصاد، ولا سيما أن سياستها النقدية التيسيرية لم يطرأ عليها تغيير في إشارة منه إلى قرار البنك المركزي الصيني خفض الاحتياطيات الإلزامية للبنوك مطلع 2020 فى مسعى لدعم الاقتصاد المتباطئ من خلال إتاحة المزيد من السيولة. وهذه الخطوة تكررت ثماني مرات منذ أوائل 2018 لتحفيز الإقراض المصرفي مع تباطؤ النمو إلى أضعف وتيرة خلال 30 عاماً.
إذاً، لم تكن قرارات المركزي الصيني هذا العام مرتبطة بمحاربة تفشي فيروس كوفيد-19 باستثناء قرار ضخ سيولة بقيمة 173.8 مليار دولار في الأسواق عبر عمليات إعادة الشراء العكسي. أما الحكومات المركزية والإقليمية، فقد إتخذت إجراءات إستثنائية وخصّصت ما قيمته 12.6 مليار دولار للإنفاق على العلاجات والمعدات الطبية وإجراءات الأمن والسلامة، في الوقت الذي تقوم فيه البنوك الرئيسة في الصين بخفض نسب الفائدة على الأفراد والشركات في المناطق المتضررة إضافة إلى تأجيل سداد القروض والأقساط وتخفيف معايير القروض المتعثرة لمساعدة المجتمعات المتضررة. الجدير ذكره في هذا الإطار، أن وكالة “ستاندرد آند بورز غلوبال” للتصنيفات الائتمانية توقعت أن يواجه القطاع المصرفي في الصين زيادة في القروض المتعثرة، قبل أن تبادر السلطات إلى إعادة تعريف هذه القروض بما يتلاءم مع حاجات المرحلة، بما يصل إلى 7.7 تريليونات يوان أي ما يعادل 1.1 تريليون دولار في ظل تقلص مداخيل الشركات والأفراد بسبب تعطل الاعمال وتقلص المداخيل.
وفي مقارنة مع نتائج انتشار فيروس “سارس” عام 2003، أظهرت صحيفة “ذي تايمز” البريطانية أن الناتج المحلي الإجمالي في الصين تقلص وقتذاك بنسبة 1% وتأثرت به قطاعات السياحة والسفر والتجارة والخدمات، وأشارت إلى أن الفيروس الجديد كوفيد-19 أضر بالقطاعات نفسها بالاضافة إلى الصناعة التي تراجعت إلى أدنى مستوياتها وانخفض مؤشر مديري المشتريات لشهر شباط/فبراير إلى 35.7 نقطة من 50.0 نقطة في كانون الثاني/يناير وتبين أن القطاعات الأكثر تضررا هي صناعة السيارات والتجهيزات المتخصصة.
ومع إعلان الصين “التغلّب” على الفيروس التاجي واستعداد بكين لتقديم المشورة والمساعدة للدول الراغبة في ذلك، دعا نائب محافظ البنك المركزي الصيني إلى تعزيز التنسيق بين الدول لمحاربة جائحة كورونا، وأكد أن محافظ البنك تبادل وجهات النظر مع جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي ومع صندوق النقد الدولي وهيئات أخرى، الأمر الذي دفع بعض المراقبين إلى الاعتقاد أن الصين ستستثمر نجاح تجربتها في محاربة الفيروس وتداعياته لفرض نفسها كـ”منقذ” للاقتصاد العالمي ولعب الدور القيادي الذي لطالما سعت إليه.
يعتقد مراقبون أن الصين ستستثمر نجاح تجربتها في محاربة الفيروس لفرض نفسها كـ”منقذ” للاقتصاد العالمي
عولمة جديدة
3% هي نسبة النمو المتوقع لاقتصاد الصين حتى نهاية عام 2020 وفق غالبية التوقعات، برغم التباطؤ الذي فرضته جائحة كوفيد-19. نسبة النمو هذه تُعدّ متدنّية قياساً إلى ما كانت عليه في السنوات الماضية، لكنها تشير إلى تقدم اقتصاد الصين على سائر الاقتصادات، وإلى إمكانية أن يلعب دوراً في إنتشال العالم من الركود. فهل تكون الصين “المحرّك” الذي يعيد الديناميكية إلى الاقتصاد العالمي في السنوات المقبلة؟ وهل تُبقي الصين على النموذج الحالي للعلاقات الاقتصادية والتجارية وسلاسل التوريد؟
في هذا السياق، نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأميركية مقالاً تحليلياً قالت فيه إن الولايات المتحدة لم تتصرف كـ “قائد” في الاستجابة العالمية لفيروس كوفيد-19 عندما سارعت شركاتها إلى نسف مبادئ العولمة وفضّلت الانغلاق على ذاتها عبر الامتناع عن مشاركة الابحاث ونتائجها ووقف تصدير الأدوية والمعدات بغية تكديسها والاستفادة منها لمحاربة الفيروس محلياً. وتنازلت الولايات المتحدة عن جزء من دورها لصالح الصين ما سمح بإعادة رسم الجغرافيا السياسية للعولمة، بحسب المجلة.
قد تكون هذه الفرصة ذهبيةً بالنسبة إلى بكين للتدخُّل بجرأة وإحداث تغيير على المفاهيم التي تزعم أن الاقتصاد العالمي يصحح نفسه، وأنه يتمتع بأسس سليمة جاهزة لتلقي الصدمات. وقد بدا أن سلاسل الإمداد العالمية تعطلت تماماً عندما سارعت الدول إلى حظر التنقُّل والسفر، ووقف بعض الصادرات، ولا سيما الإمدادات الضرورية لمواجهة الأزمة.
هكذا بدا أن العولمة ساعدت في انتشار المرض وتداعياته بسرعة قياسية وعاقت الوصول إلى علاج بدل أن تساعد في احتوائه.
العولمة بصورتها الراهنة خلقت نظاماً معقداً، اعتنقت فيه الشركات عقيدة “سلاسل الإمداد” في نسيج متشابك من شبكات الإنتاج حتى باتت أجزاء المُنتَج الواحِد تُصنَّع في عشرات البلدان. المشكلة أن النقص في احتياطيّ المُنتَج أو البدائل يمكن أن يتسبّب في انهيار سلاسل الإمداد، كما حدث فعلياً لبعض القطاعات الطبية والصحية نتيجة انتشار فيروس كوفيد-19 حيث واجهت الدول المزوِّدة بالخدمات الطبية ارتفاعا هائلا في الطلب العالمي، ما دفعها للتنافس في ما بينها على الموارد، وعلى لعب دور القيادة لمساعدة الدول العاجزة عن احتواء الفيروس ما قد يؤدي في النهاية إلى بسط نفوذ الدول “المنقذة” على الدول المنكوبة.
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
رابط المقال على 180 post اضغط هنا