تُسجَّل للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على الرغم من وقوعه في فخّ وشباك مشاكل متعدّدة حول العالم، انطلاقاً من الأزمة اللبنانية إلى انغماسه بالوحل الروسي نتيجة تصاعد حدّة الأزمة الروسية الأوكرانية إلى حدّ التدخّل العسكري، تُسجّل له صفة “الحيوية” لحلحلة المشاكل. ولو كانت غير متّزنة واندفاعية حيناً، ومفرطة في التفاؤل والغلوّ في القدرة أحياناً كثيرة. إضافة إلى حرصه الشديد على حلّ الأزمات بالطرق السلمية والقانونية وتجنيبه فرنسا وأوروبا والعالم الحرب.
يسير الرئيس ماكرون على وتد النزاع الروسي الأوكراني الجديد والمعلّق فوق النيران، وهو يضع فرنسا بالفعل أمام مسؤوليّتها الأوروبية والدولية.
تحدّيات داخليّة ودوليّة
تواجه الرئاسة الفرنسية الحالية تحدّيات كبيرة داخليّاً. فماكرون محاصَر بسلسلة من القيم والشعارات والمبادئ، بحيث وقعت الانتخابات الرئاسية الفرنسية، “عرس فرنسا الديمقراطي” بمناظراتها وحملاتها ومهرجاناتها، ضحيّةً لهذه التحدّيات، وبشكل مباشر للأزمة الأوكرانية ومتحوّر أوميكرون من جائحة كورونا.
قد يكون هذا عاملاً مساعداً بالنسبة إلى الرئيس ماكرون الذي كان يواجه حملات شرسة في الداخل وعدم رضا جماهيري عنه في الفترة الأخيرة، لانغماسه في مشاكل خارج الحدود الفرنسية، وبسبب صراعه مع المواطن الفرنسي، حتى الحائز ثقته، حول الأولويّات، إذ أعطى ماكرون الأولويّة للمشاكل الدولية مع محاولة تصحيحه للكثير من الأخطاء التي وقع فيها والزلّات التي زحلقته.
تواجه الرئاسة الفرنسية أيضاً تحدّيات أوروبية ودولية كبيرة بدءاً من البناء الأوروبي المتكامل، وتكيّفها بالمقابل من أجل تسريع إجراءات الاندماج لتكريس مجموعة الأفكار السياسية في مجال الدفاع وتطوير الناتو وموضوع الجيش الأوروبي والتهديد الروسي ومكافحة الإرهاب.
مخاوف الناخب الفرنسي
هو رجلٌ واقعيٌ يحاول أن يقتنص الفرص مهما وكيفما كانت، ويستعملها ويطوِّعها لمصلحة فرنسا ومصلحته. فهو يعلم أنّه على مقربة من استحقاق مهمّ بالنسبة إلى فرنسا وإليه شخصيّاً، إذ يسعى إلى العودة ثانيةً إلى الإليزيه، ويجتهد لردم الهوّة بينه وبين المواطنين، ويسعى إلى تحويل تأخّره إلى تقدُّم، وأن يعوّض أخطاءه الداخلية من بوّابة الانتماء والأمن الأوروبيَّين، واسترداد هيبة ومكانة فرنسا. مع معرفته أنّ المزاج الفرنسي لا تحرِّكه القضايا الدولية في العادة إلا إذا كانت مصيرية وتهدّده في الصميم. وهو يعلم أنّ هذه الأزمة الحاليّة ومشاكلها ليست عاديّة. فهي تهدّد الفرنسي في أرضه وقوميّته وأمنه ووجوده. وماكرون يحاول الاستفادة من هذه الأزمات بواقعيّة لإقناع الرأي العامّ الفرنسي بأنّه هو رئيس المرحلة في فرنسا ورجل أوروبا القويّ.
على الرغم من واقعيّة ماكرون هذه وتوصيفه لمجموعة المبادئ الجوهرية للاتحاد الأوروبي (التقدُّم والسلام والديمقراطية)، إلا أنّ الخطأ الأكبر كان إعطاء الاتحاد الأوروبي الأولويّة لنموذج الضمّ التدريجي الموسّع لدول شرق أوروبا، والتفسير الخاطئ لسياسة الباب المفتوح في النظام الداخلي للناتو. والخطيئة هي محاولة تطبيق اتفاق مينسك 2015 بطريقة النورماندي الخاسرة التي تجمع كلّاً من ألمانيا وفرنسا وروسيا وأوكرانيا.
أليس التفاوض بصيغة النورماندي محكوماً عليه بالفشل؟
يسير الرئيس ماكرون على وتد النزاع الروسي الأوكراني الجديد والمعلّق فوق النيران، وهو يضع فرنسا بالفعل أمام مسؤوليّتها الأوروبية والدولية. لأنّه قد ينجح في الالتفاف على حالة الانقسام الأوروبية بين دول الاتحاد نتيجة هذه الأزمة في سياق تحويلها إلى توافق وإجماع.
في حين كانت أوروبا مضطربة والاتحاد الأوروبي مرتبكاً ومهمّشاً ولا يقوى على أن يحجز لنفسه مقعداً على الطاولة الروسية الأميركية، كانت الدبلوماسية المكّوكية لماكرون تساعد وتمكّن من تأسيس وتشكيل موقف أوروبي غربي متجانس لردع روسيا. وهذا ما أكسبه النقاط على المستوى الداخلي الفرنسي ومكّنه من استعادة البعض من خسائره بين المؤيّدين. بعد أن أظهر لفترة أنه خسر ثقة ناخبيه، غير أنّه بقي المتقدِّم بشكل ملحوظ في الاستطلاعات.
بين اللحظتين “الديغوليّة والميترانيّة”
يستعمل ماكرون الفكر الأوروبي والمبادئ القاريّة والوفاء للاتّحاد لتخليص الرئاسة الفرنسية ورئاسته وتحصين طريقه على الرغم من التحدّيات والأعباء الداخلية ابتداءً بجائحة كورونا بكلّ تفاصيلها، مروراً بالأزمة الاقتصادية ومعضلة التضخّم في منطقة اليورو ومشاكل سلسلة التوريد، وصولاً إلى مسألة الهجرة غير الشرعية. هذا على الرغم من الملل الفرنسي من تدخّله في الأزمات الدولية بالشرق الأوسط وإعطاء الأولويّة للمشاكل الكبرى الدولية من خلال إعلانه أنّ الوقت قد حان لتعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية على نحو كبير، والعمل على استعادة القدرة الرادعة لأوروبا. فوق هذا يعتبر نفسه في “لحظة ديغوليّة” تدعو القادة والمواطنين الفرنسيين إلى التضامن عبر الأطلسي بما يتطابق مع مبدأ الرئيس الأسبق شارل ديغول أثناء أزمة الصواريخ الكوبية بين أميركا والاتحاد السوفياتي، والصراع بين برلينين، وفي “لحظة ميترانيّة” نجح خلالها الرئيس فرانسوا ميتران في الدفاع بطريقة مذهلة عن أوروبا وألمانيا، ولا سيّما في لحظة أزمة الصواريخ.
يحاول ماكرون الاستفادة نوعاً ما من التوازنات الاستراتيجية وسيادة الدول واحترام المعاهدات والالتزامات الدولية لمصلحته، إذ إنّه يتقن النقر على الوتر الحسّاس للشعور الفرنسي الحقيقي “الخام” المتمثّل بمصطلحات مثل “الهيبة الفرنسية” و”القوميّة الأوروبية” و”مكانة الدولة على مستوى العالم”، وبأن تكون فرنسا الدعامة الأساسية للأمن الأوروبي. لذا تراه يتصرّف وكأنّه قائد الجيوش في أوروبا في وقت الحرب، ومرشد روحيّ من خلال تحفيزه جوّاً من الاتحاد المقدّس بين الفرنسيين في مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا وتسلّحه بإدانة الجميع للتصرّف الروسي.
حيلة “تجاهل” الترشيح
لقد نصب فخاخاً غير مرئية لمنافسيه في السباق الرئاسي بإظهاره عدم اكتراثه للانتخابات وتوقيفه لحملاته وعدم إعلانه ترشُّحه، فيما تقف نصب عينيه ويركّز هو عليها. وهذا أمر يكسبه النقاط لتغليبه المصلحة العليا للدولة على الموضوع الشخصي، وقد تجلّى ذلك في ظهور منافسيه أخيراً (ماري لوبان وجان لوك وميلينشون وإيريك زمور) في موقف دفاعي. فعلى الرغم من إدانتهم على الفور الغزو الروسي، فقد تمّ انتقادهم لأنّهم ربطوا، بدرجات متفاوتة، المزاعم الروسية بتوسيع الناتو، وإن من دون تأييد تصرّفات الرئيس الروسي. ولم ينسَ الفرنسيون أنّهم هم أنفسهم سعوا إلى حدٍّ ما للحصول على دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهم يتوقّعون أن يدفعوا تكلفة باهظة انتخابياً بسبب اندفاعهم لتوسعة “الناتو”. وماكرون الرابح سوف يستفيد منها جيّداً، على الرغم من تصريحاتهم شبه اليومية بأنّه يختبئ خلف ستائر الأزمات الدولية لعدم مواجهة منافسيه.
هل يبقى في أذهان الفرنسيين تدخُّل ماكرون للوساطة ونزع الفتيل. أم عجز فرنسا وأوروبا عن عدم الردّ الحازم على روسيا هو الذي سيبقى؟
هل تكون الأزمة الأوكرانية مع غيرها من الأزمات حملة انتخابية ناجحة للرئيس ماكرون؟
هل يكون ماكرون سيّداً للمرّة الثانية للإليزيه؟
الجواب في الشهر الرابع.