جُنُونٌ في طَريقِ الإفقَار… بقلم المحامي زياد فرام
قد يَسقُط المَرءُ صريعَ رغَباتِه، وقد يَهوَى طَريحَ سقَامِه، أمّا أن يعيشَ بلا مُرتجىً، فهذا نوعٌ من الإنكار الوجودي والإحباط دون الحوافز والدّوافع للحاجات الأوليّة، بما يحرزه من إذلالٍ للنفس والإرادة..
عوامِلُ بيئيّةٍ خارجيّةٍ عديدةٍ قد تُحبِط الفرد، تتخطى إرادته يعجز عن السَّيطرة عليها والتحكُّم فيها، منها الظّروف الناجمة عن النُّظم الاقتصاديّة المعتمدة وسوق وفرص العمل، ومستوى الرَّفاه.
لعلّ سياسة التعويم التي تعتمدها الحكومات في خضمِّ الأزمات الإقتصاديّة والإفراط في طباعة المال والتمويل بالعجز، تعطي في بداياتها انطباعاً مريحاً لدى المواطنين، إنَّه سراب الإنتعاش الإقتصادي الذي سرعان ما يَضمحلّ بعد أن يزيد وَهماً حركة السّوق.
إنَّ ضخّ المال لا يرفع الأسعار مباشرةً، بل سيتطلب الأمر فترة من الزمن حينها تبدأ الأسعار بالإرتفاع، مقابل انخفاض قيمة النقد، إن هذا يشبه وضع المُدمِن على المخدّرات التي تمنحه الأخيرة الإنتعاش والثّقة بالنفس بداية الأمر، إنّما سرعان ما تظهر أعراض الإنسحاب وعدم القدرة على السيطرة على الذات فالإنهيار المحتوم بالرغم من زيادة الجرعات.. فمع مرور الوقت على التضخّم، وبدون تخطيط ستستمر الأسعار في الإرتفاع، وإبَّان كل زيادة في ضخِّ السُّيولة النقديّة ستكون النتائج أدنى وأقل و ستزداد الأسعار بوتيرة أعلى.
عندئذٍ سيدرك المواطنون الزّيادة الحقيقيّة، وعدم قدرتهم على اللحاق بها ، فيُحبَطون و يقبعون في حالة نفسيّة تضرب عمق عزيمتهم وقدرة إنتاجيّتهم فيفضّلون تقليص أعمالِهم والحدّ من جهودهم حيث لا نفع ولا قيمة لما يتكبّدوه..
قد يعرَّف التضخم بأنه فقدان العُملة لقدرتها الشرائيّة بأبسط تعبير، إلا أن تلك البساطة في التعريف لا يجب أن نستسهلنّها، فالتضخّم يصنَّف في المرتبة الثالثة في مقياس الكوارث التي تصيب البلدان بعد المجاعات والحروب.
وهناك مقولة مفادها أنَّ ” التضخم هو العدو رقم واحد للاقتصاد” فكيف حال عدائه لمن يتأثرون بواقع الإقتصاد..؟!
من يبحث في تاريخ الشعوب، يعلم أنه بعد اكتشاف العالم الجديد (الأميريكيتين)، حصل الإسبان على غنائم الفضّة في أميركا الجنوبيّة.. فقدِّرت كميّة الفضّة المستخرجة في القرن السادس عشر بمئة وستين ألف طن (١٦٠٠٠٠ طن) أي حوالي ٨٠ بالمئة من مجمل الفضّة العالميّة الموجودة اليوم.
وبذلك كان الإقتصاد الإسباني الأقوى عالمياً فانتعش السوق وزادت السيولة النقديّة بشكل مفرط، لكن ما لم يدركه الإسبان آنذاك أن هناك ما يسمى بالتضخّم أي فقدان المال لقيمته الشرائية بزيادته عن حاجات السوق الفعليّة.
لقد هبطت قيمة البيزوس الإسباني إلى السدس تدريجياً بالمقارنة بما قبل اكتشاف الفضّة، وبدل الرَّخاء الإقتصادي، أفلست الحكومة الإسبانيّة ثلاث مرّات وتخبّطت واستدانت مبالغ طائلة من باقي الدُّول الأوروبيّة ودخلت بمنظومات فاشلة وتقسيم لامبراطوريتها.. ومنذ القرن السابع عشر والدولة الإسبانية لم تزل تعاني من آثار هذا التضخّم..
يرجِع الإقتصاديون أسباب التضخّم، لثلاثة رئيسيّة :
١ـ إرتفاع الكلفة، الذي يأتي على حساب المستهلك،
٢ـ إرتفاع الطلب، الناجم عن التَّرف وفائض المال لدى المواطنين الذي لا يُقابل بزيادة عرض البضائع والخدمات المنتجة محلياً،
٣ـ طباعة المال، عندما يصار لطباعة كميات من العملة وضخها بالسوق في إطار العجز الحكومي، دون وجود ناتج مقابل لهذا الضخّ. .
التضخّم يؤدي لتدني القدرة على الإدخار حيث تنعدم الثقة من حيازة المال للمستقبل ما يؤدي لفرط الإنفاق..
والحكومة التي تفقد القدرة على حماية الإقتصاد الوطني تفقد ثقة شعبها ما يتسبب في الفوضى الناجمة عن الإحباط العام..
بعد استعراضنا لسلبيّات التضخّم، ماذا عن آثار التجربة اللبنانيّة بواقعها؟
قبل أن نصف واقع التجربة الوطنيّة نودّ أن نتساءل: ألا يجب أن يكون للعملة نسبة تضخم ثابتة سنويّة ؟، ألم يكن الأجدى زيادة نسب التضخم السنويّة على قيمة النقد بدل من اعتماد التثبيت المكلف الذي أفرغ كلّ احتياطي الدعم ؟..
نحن اليوم، ما عدنا قادرين على كسب أيّة فرصة مع نظام ريعيّ يحكمه التضخّم الجامح..
بعد حدوث تلك الواقعة الإقتصاديّة، التي أدَّت لانخفاض قيمة النقد و الرواتب و الأجور، و تراجع القدرة الشرائيّة، و ارتفاع كلفة الإستيراد وتمويل ميزان المدفوعات..
لقد ضَعُفَ اقتصادنا لمستوى الإضمحلال..
لقد نبّهنا مراراً من تكرار اعتماد التعويم الموجَّه المكلفٌ جداً على الدولة والذي سينهش كامل الاحتياطي بالعملات الأجنبية، ما يؤدي ( على الطّريقة الرائجة ) لابتكار هندسات ماليّة مجدّدة تلبيةً لتسديد استحقاقات الدّولة وأرباح البنوك والمقرضين الكبار.. على حساب حقوق الرازحين في تعبهم المتخبّطين في أتون الفشل ..
فالحسابات السياسيّة في لبنان دائماً ما تأتي بالسلبية على الٱقتصاد والنفوس، حيث تستهدف مقومات الصمود إنتصاراً لخطّة، واستبدالاً لمركز، وإفشالاً لاستراتيجية.. نحو منهجيّة الإفقار..
دولة متعدِّدة الرؤوس..!! لا ضابط فيها لناصيّة القيادة، ولا ظفرٌ بزمام الحكم بل تسويات وتوافق ومحاصصة وإخفاق.. إنها التجربة اللبنانيَّة المُحبطة..
سأستعيد بعضاً مما قاله أحد أبرز فلاسفة المذهب التجاري الفرنسي جان بودان Jean Bodin ١٥٣٠ ـ ١٥٩٦ و مؤسس “الاقتصاد السياسي” الذي حلَّل أسباب ارتفاع الأسعار في أوروبا، وناقش مساوئ خفض قيمة العملة واحتكار الموارد، فقال مقولته الشهيرة ” إنَّ جوهر الحكم هو الوصول للحق لا للسلطة.. و بدون قوّة لن يستطيع الراعي le magistrat تنحية قطيعه، ولن يستطيع أن يحميه من ذئاب ضارية سولت لها نفسها يوما أن تفترس إحدى الغنائم، وهو الأمر نفسه ينبغي أن يحصل لدى حاكم البلاد، عليه أن يعلن السِّلم بفمه من جهة، ويده معلنة السَّيف من جهة أخرى.. إنَّ الراعي هو القانون الحي” .
أمّا، وأن تعالجَ النتائج دون الأسباب، وأن يكون همّ السّلطة من سيدفع ثمن الانهيار، لتأتي فزلكاتها النقديّة باقتراح ضوابط استثنائية على بعض العمليات والخدمات المصرفية.. فتُخلي الساحة للمضاربين والمحتكرين، لتصب جهدها في الدفاع عن من كدّسوا الثروات و هرَّبوا الأموال،.. لا حماية أصحاب الرساميل والإيداعات، فيما الناس تستجمع ما تبقى لديها من عزيمة جشَّمها الفقر و فوبيا الوباء ..
في وطني لم يعد للمال قدرة وللتعب قيمة وللعرق رائحة الكرامة، لقد تحوّلنا جميعاً إلى معدومي الأمل وفاقدي المُبادرة ومُنهكي العزيمة..
سنون من التضخّم سندخل في خضمّها، ولن يغيثنا غير سياسات ضريبيَّة مشدّدة وتحرير مطلق لسعر الصّرف، وتحفيز للإنتاجيّة المُلحّة.. قد تُدخلنا التجربة الإسبانيّة لنعاني من سوء طالعها قبل أن يستعيد الإقتصاد عافيته فيستردّ النقد بعض رميمه..
ومن يتّكل على ما يفرض على الوطن من شروط جزيلة، قد يستوي والرّهان الخاسر مع سلطة تدأب التستّر والتعتيم لحفظ مكانتها..ولكن..!!
إنَّ الظاهرة السلوكيّة والنفسيّة التي أعاتها التضخّم، قادرة على تدمير أجيال ومجتمعات، فالفشل، والاكتئاب والعزلة، وعدم القدرة على الإنتاج والعطاء والعمل سببه الرئيسي الإحباط.. إنَّ المشكلات الاقتصاديّة الناتجة عن الفقر وضيق ذات اليد حيث لا طائلة على تلبية الاحتياجات الأساسيّة للإنسان، تدفع به إلى مجموعة من الاضطرابات، فالذُّهان المؤدِّي للجنون.
تعليق واحد