إنه وباء العصر الحديث الذي أسقط هيبة التنظيم الدولي العالمي، وأزال الأقنعة ليكشف عن الكثير من خبايا دول العالم، بل لقد نجح هذا الفيروس الهزيل في البرهنة على مدى ضعف وهشاشة أعمدة الدول الكبرى والتي كان يتبارى أباطرتها في استعراض مواطن قوتهم وضخامة قواعدهم العسكرية وعظم ترساناتهم البحرية.
لقد تبين للعالم أجمع أن الأجهزة المناعية والوقائية لتلك الإمبراطوريات العظمى لم تحول دون قدرة هذا الوباء على الإجهاز عليها وتمكنه من مفاصلها. والمثير للدهشة أن هذا المخلوق الضعيف قد أعاد للعالم تعدد أقطابه مما يسهم في إحداث نوع من التوازن في ملف العلاقات الخارجية والتعاون الدولي في المستقبل بين مختلف بلدان العالم.
وما أن حل الوباء حتى ظهر التضارب والانقسام بين سياسات الدول العظمى في التعاطي مع الكارثة. فقد تقلدت الصين- البؤرة الأولى لظهور الوباء- الدور القيادي في إدارة الأزمة على الصعيد الداخلي، ولكن رغم كل الجهود التي بذلتها الصين للحيلولة دون انتقال الوباء إلى باقي أصقاع الأرض، إلا أنها لم تنجح سوى في محاصرته والسيطرة عليه داخل حدود الدولة فقط، فقد نجحت الصين حكومة وشعبا في احتواء هذا الفيروس وتم استنفار جميع أجهزة الدولة وتسخير كافة موارد البلاد في مواجهة هذا التهديد الذي شل بلدان بأسرها.
وقد كانت الصين إبان تلك الأزمة عند حسن ظن الجميع، فقد هبت لنجدة إيطاليا التي تربعت على عرش العالم من حيث أعداد الضحايا التي خلفها هذا الوباء، وكذلك روسيا التي أرسلت بعض من مختصي الحرب الكيميائية والبيولوجية للمشاركة في أعمال التطهير. هذا في الوقت الذي تخلت عن الجمهورية الإيطالية بلدان أخرى تقبع معها أيضا تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، فاللحظات الحرجة فقط هي من تكشف ستر النفوس ومعادن البشر.
وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية حيث الولايات المتحدة الأمريكية والتي تمادى رئيسها المغرور في الاستهانة بأمر الوباء حتى باتت اليوم تعاني من نقص في الإمكانات الطبية والموارد الاقتصادية. هذا البلد الغني بموارده وقدراته المعرفية والتكنولوجية المهولة إلا أنه وقف عاجزا أمام بطش هذا الفيروس وسرعة انتشاره، و الذي استطاع أن يعيد التوازن العقلي لكثير من حكومات العالم لإعادة التفكير في خططها المستقبلية ووضع احتمالات لحدوث وتكرار تلك الأزمة أو ربما أشد منها ضراوة في المستقبل.
لا شك أن الجميع يفكرون الآن في إعادة رسم الخارطة الصناعية الطبية حول العالم وإيلاء المزيد من الاهتمام لقطاع الأمن الطبي والاستراتيجي، وذلك من خلال إنشاء المزيد من المصانع والمعامل المتخصصة في إنتاج كافة المستلزمات الطبية والدوائية وعدم احتكارها من قبل بعض الدول الصناعية الكبرى تلافيا لتكرار هذا السيناريو الأليم .
لقد أفرز ذلك الفيروس الضعيف حالة من الترابط القوي بين شعوب الأرض والتي تتابع ما يحدث لحظة بلحظة عبر وسائل الإعلام التي جعلت من العالم قرية صغيرة. فمنذ بداية ظهور الفيروس بمدينة ووهان الصينية والتعاطف كان سيد الموقف، حيث تشارك الجميع في الدعاء بشفاء المصابين وطلب الرحمة للمتوفين. وهكذا، كلما ظهر الوباء في بقعة أخرى كلما ظهر التفاعل والتجانس الشعبي العالمي في ردة فعل الجماهير إزاء ما يتابعونه من أخبار عالمية . لقد تحققت النبؤة المرجوة وتوحد العالم على قلب رجل واحد ليس لمقاتلة ومجابهة الأعداء الفضائيين في استوديوهات هوليود كما عهدنا تلك المشاهد في السينما الأمريكية، ولكن لمواجهة عدو خفي حقيقي وهو كورونا الذي ربما عجزت أقوى سيناريوهات الأفلام الأمريكية السابقة التي تخيلت كوارث متنوعة تحل بكوكب الأرض عن تصوره وتجسيده أمام العالم.
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا