عندما يتعلق الأمر بالعلاقات بين كل من القوى الثلاث الأكبر عالميًا، أمريكا والصين وروسيا، فإنه عادة ما يكثر الحديث عن العودة إلى الماضي، فالعالم الآن يواجه حرباً باردة أيضاً، ولكن من نوع جديد. ولعل ذلك قد بات واضحاً بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، إلى جانب سلسلة التدابير المعادية للصين، والتي ترجمت في صورة حرب اقتصادية واسعة المدى والتي اتسعت أصداءها لتشمل العالم أجمع.
وربما تقدم الخطوات الأخيرة للزعماء الثلاث، ترامب وبوتين وتشي جين بينغ، دلالات واضحة على اشتعال فتيل الحرب الباردة من جديد، ولكن ما نواجهه حاليا لا يبدو نسخة مستحدثة من الحرب الباردة في القرن الماضي ، بل هي مأزق عالمي جديد وربما أكثر خطورة.
فعلى الرغم من أن الحرب الباردة التي استمرت منذ عام 1940 حتى سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 قد حملت تهديدًا عالميا خطيرا والمتمثل في خطر الإبادة النووية وبخاصة بعد أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، إلا أنها من ناحية أخرى قد دفعت القوتين العظمتين للاتجاه نحو تجنب المواجهات المباشرة التي قد تتسبب في كارثة بشرية. حيث انخرطا سويا في سلسلة من المفاوضات التي أسفرت عن التزام كليهما بخفض الأنشطة في ترساناتهم النووية وذلك من أجل الحد من خطر حرب هارمجدون أو “نهاية العالم” الفاصلة في المستقبل.
إن ما يسميه البعض حاليا، الحرب الباردة الجديدة، يحمل أدنى مستوى من التطابق مع الحرب الباردة المندلعة في القرن الماضي. فعلى ما يبدو أن القوى الثلاث منخرطون في سباق تسلح بوتيرة متسارعة يركز في مضمونه على الأسلحة النووية، والأسلحة التقليدية واسعة المدى وغيرها من الأنواع شديدة الفتك. كما أن كل منهم يعمد الآن – على طريقته الخاصة- إلى تحقيق نوع من الحشد والتعبئة في صفوف حلفائه. فالمنافسة الآن قد أصبحت صراعاً عالمياً صريحاً على السلطة.
ومن بين الاختلافات الواضحة بين كلا الحربين الباردتين، أن الولايات المتحدة قد أصبح لديها الآن خصمان وليس واحد كما في السابق، كما أن خريطة الصراع العالمي باتت أكثر تعقيدا مع تزايد فرص واحتمالات التوسع في التسلح النووي. وفي الوقت نفسه فقد تلاشت الحدود الفاصلة بين مفهومي “الحرب” و”السلام” بالمعنى التقليدي المتعارف عليه لكل منهما. فالملاحظ أن القوى الثلاث يستخدمون الآن أنواع عدة من المواجهات وأساليب الضغط كالحروب الاقتصادية والهجمات الالكترونية، والتي تنذر بخطر مستقبلي وشيك.
ومايزيد الأمر سوءًا، هو بعض الأعمال الاستفزازية التي تمارسها الدول العظمى كالمناورات البحرية التي تشنها كل من القوات البحرية الصينية والأمريكية قبالة الجزر التي تحتلها الصين في بحر الصين الجنوبي. ومن ناحية أخرى فإنه بدلا من اتجاه الدول الثلاث إلى إبرام اتفاقيات الحد من الانتشار النووي، فعلى ما يبدو أن الولايات المتحدة وروسيا عازمتان على تمزيق الاتفاقات القديمة وإطلاق سباق تسلح نووي جديد.
ومن هذا المنطلق فإنه يمكن اعتبار العوامل السابقة بمثابة مؤشرات قد تقود العالم نحو أزمة صاروخية كوبية جديدة، والتي قد تشتعل في بحر الصين الجنوبي، أو منطقة البلطيق حيث تشارك كل من الطائرات والسفن الروسية والأمريكية في مناورات مستمرة.
ولمزيد من الفهم لأسباب تزايد وتيرة الصراع بين القوى العظمى في العالم، لابد من تسليط الضوء على العوامل التي تميز المرحلة الراهنة عن حقبة الحرب الباردة المنصرمة.
الصراع ثلاثي الأقطاب يفرض نفسه على العالم الآن
تمثلت الحرب الباردة سابقا في صراع ثنائي الأقطاب بين كل من روسيا وأمريكا، وعلى الرغم من المخاطر التي انطوى عليها ذلك الصراع، إلا أنه أفسح المجال أمام قيام القوتين العظمتين بتبني فهم مشترك لمبدأ ضبط النفس على الصعيد النووي من أجل ضمان بقاء كليهما على قيد الحياة. وقد استمرت أحداث الحرب ثنائية القطب حتى حانت لحظة الوصول إلى ما اطلق عليه “العالم أحادي القطب” حيث عمدت الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى قيام روسيا بالاستيلاء على شبه جزيرة القرم في عام 2014 إلى تشكيل الأجندة العالمية.
وعندما اعتقدت واشنطن بوجود منافسين مبتدأين لها كالرئيس العراقي السابق صدام حسين، فإنها عمدت في التو إلى استنفاذ طاقاتها العسكرية والمالية في حروب فاشلة. هذا في الوقت الذي حرصت فيه كل من الصين وروسيا اللتان لم تعانيا من الاستنفاذ على التحديث المستمر لإمكاناتهما العسكرية، وحفظ مكانتهما الجيوسياسية على خريطة العالم.
والآن أصبحنا نعيش في عالم ثلاثي الأقطاب، فقد تمكنت كل من روسيا والصين من دخول حلبة المنافسة في وجه العملاق الأمريكي، كما استطاعا توسيع نطاق نفوذهما خارج حدودهما على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، والأهم من ذلك أن قادة الدول الثلاث يسعون بكل ما أوتوا من قوة لخدمة مصالح بلادهم.
وخلال حقبة الحرب الباردة في الماضي، كان هناك خط حاسم للمواجهة بين القوتين الرئيسيتين: الحدود بين الناتو ودول حلف وارسو في أوروبا. وقد أدرك القادة في كل من الاتحاد السوفيتي وأمريكا آنذاك مدى خطورة أي احتكاك يحدث على طول ذلك الخط. ولعل كان ذلك هو الدافع الأقوى وراء سعى الدولتين نحو اتخاذ العديد من التدابير الرامية إلى وقف التصعيد، فيما عرف بمعاهدة القوى النووية متوسطة المدى المبرمة عام 1987 والتي يبدو أنها أصبحت على وشك الإلغاء الآن.
وقد تم استعادة خط المواجهة سالف الذكر مجددا خلال الآونة الأخيرة، حيث تم تعزيزه على محيط أقرب إلى الأراضي الروسية وذلك بفضل توسع حلف الناتو شرقا في كل من جمهورية التشيك وبولندا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا وجمهوريات البلطيق في العصر أحادي القطب. وعلى طول ذلك الخط هناك مئات الآلاف من الجنود المدججين بالسلاح في حالة تأهب تام للقيام بعمليات هجومية في التو واللحظة إذا ما طلب منهم ذلك.
وفي الوقت نفسه فقد تم إنشاء خط مواجهة مماثل في آسيا والذي يمتد من الأراضي الروسية البعيدة وصولا إلى بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ. وتشهد تلك البقعة الساخنة العديد من المناورات العسكرية للطائرات والسفن التابعة للقوى النووية الثلاث مما يهدد بخطر حرب مستقبلية محتملة واسعة النطاق.
إذاً.. فهي الحرب
لقد انخرطت كل من روسيا وأمريكا في العديد من الأنشطة العدائية الأخرى التي تختلف كلياً عن النزاعات المسلحة في صورتها التقليدية، بما في ذلك ممارسة الدعاية وتضليل الرأي العام وقيادة ما عرف لاحقا بـ (حروب بالوكالة) في بعض بلدان العالم الثالث، إلا أن تلك المواجهات لم تصل إلى حد اندلاع حرب ساخنة وصراع نووي عالمي.
أما في القرن الحادي والعشرين، فقد أصبح التمييز بين مفهومي الحرب والسلام واضحا، واتخذت الحرب أبعادا جديدة كالحرب التجارية التي شنها الرئيس ترامب ضد الصين، والتي قالت عنها صحيفة نيويورك تايمز أنها تستهدف عزل الصين وإجبارها على تنفيذ تغييرات جوهرية على صعيد الممارسات التجارية بهدف إعادة هيكلة شكل العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول العالم الأخرى. وذلك في إطار خطة ترامب الساعية إلى القضاء على المخطط الصيني “صنع في الصين 2025” والذي يستهدف تحقيق أقصى مستويات النجاح على الصعيد التكنولوجي العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي نحو محاولة قطع السبيل أمام الصين كي لا تتمكن من الوقوف كقوة عظمى في وجه الولايات المتحدة.
ولعل السؤال الآن هل يمكن أن تؤدي كل من الحرب الاقتصادية والتكنولوجية إلى صراع مسلح بالمعنى المتعارف عليه؟
قد يبدو هذا التساؤل ملحا في الوقت الذي تعمد فيه القوى العظمى الثلاث إلى استعراض قوتها العسكرية والتعدي على الحدود الدفاعية أحيانا الخاصة بمنافسيهم، وبالتالي فإن التدريبات العسكرية المتزايدة ونشر السفن الحربية قد ينذر بالخطر آجلاً أم عاجلاً.
ولعل المناورة العسكرية الكبرى “Vostok 2018″ قد دقت أجراس الإنذار في الناتو لكونها الأكبر من نوعها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي استهدفت إعداد الجيش الروسي لمواجهة محتملة مع أمريكا، وقوبل ذلك من قبل حلف شمال الأطلسي بمناورة عسكرية مشابهة ” Trident Venture والي استهدفت إعداد العدة لصدام كبير محتمل بين الشرق والغرب في أوروبا.
وينطبق الشيء نفسه على المواجهات البحرية الصينية والأمريكية في بحر الصين الجنوبي. لقد حولت الصين بعض الجزر المرجانية إلى منشآت عسكرية مصغرة ، الأمر الذي لاقى اعتراضا كبيرا من قبل البلدان المجاورة والتي تتولى واشنطن مهمة التحدث نيابة عنهم. وترتب على ذلك وقوع العديد من العمليات الاستفزازية والمناوشات بين كل من القوات البحرية الأمريكية والصينية ، وهنا أعلن نائب الرئيس الأمريكي عن عزم بلاده على استئناف المسيرة والمواجهة.
هل أصبح العالم الآن على مشارف حرب عالمية ثالثة؟
يمكن الإجابة على ذلك بالنظر إلى حجم الهجمات الاقتصادية والالكترونية والعمليات العسكرية واسعة النطاق. أضف إلى ذلك نية كل من الرؤساء الثلاث للتخلي عن الاتقافيات السابقة التي تحد من تطوير الأنشطة النووية. فقد عمدت كل من أمريكا وروسيا خلال العامين الماضيين إلى إصلاح ترسانتهم النووية والتي تحوي العديد من الصواريخ الباليستية والأسلحة الاستراتيجية، هذا في الوقت الذي عكفت فيه الصين من خلال ترسانتها الأصغر حجما على المضي قدما في مشروعات التحديث الخاصة بها.
وفيما يبدو أن كافة المؤشرات باتت تميل نحو احتمالية قوية لاندلاع حرب عالمية ثالثة، وهنا لابد من لفت أنظار العالم نحو الخطر القادم والذي ينخرط فيه ثلاث قوى نووية يبدو أنها تتمتع بالجاهزية التامة لخوض حرب شاملة ضد الإنسانية. والسؤال الآن، هل يمكن منع الحرب النووية الثالثة النووية؟ الإجابة هي نعم ، ولكن فقط إذا أصبح منعها هدفًا مركزيًا مشتركًا وليد اللحظة. والحقيقة أن الوقت قد بدأ في النفاذ.
رابط المقال الأصلي اضغط هنا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا