
المعايير الأكاديمية العلمية لتبوّؤ منصب حاكم مصرف لبنان مستقاة من تجربة الأزمة المفتعلة التي عصفت وما زالت بالجمهورية اللبنانية.
بدايةً، وقبل البحث بالمعايير المقترحة نرى أنه يجب تحديد الدّور الدقيق لمنصب حاكم المصرف المركزي لمنع أي شطط او إنحراف قد يسبب إرتكابات مستقبلية تنتج بشكل وثيق عن خلط بالأدوار كما حصل في الفترة المنصرمة؛
لذا برأينا فإن دور حاكم المصرف المركزي الضابط القانوني لإيقاع عمل النظام المصرفي محدد بشكل عام ضمن الأحكام القانونية لمهام المصرف المركزي، والمشار إليها في متن المادة ٧٠ من قانون النقد والتسليف وهي:
المحافظة على عملة الدولة اللبنانية أي الليرة اللبنانية التي يجب ان تكون محور رسالته لا سيما وان مصرف لبنان يحوز منفرداً إمتياز اصدارها وفق معطيات المادة ١٠ المعطوفة على المادة ٨٠ من قانون النقد والتسليف، ولذا يتوجب عليه إعلاء شأن هذا الامتياز لا سيما وان القانون قد منحه الإجراءات القانونية والأدوات المالية كافة التي تُمكنه من تحقيق هذا الهدف، علماً ان إنضباط هذه الغاية ضمن محورها الصحيح سيؤدي حكماً إلى تأمين أساس النمو الإقتصادي والإجتماعي الدائم، وهنا يقتضي الاشارة الى وجوب الخروج عن التوصيف الانشائي لهذه الفقرة ( الأولى من المادة 70 نقد وتسليف) بإعتبار ان الإلتزام الناشئ عنها يجب ان يفهم كإلتزام قانوني لا انشائي، وبالتالي يقتضي ان تكون هذه المهمة ملحوظة كموجب “نتيجة” يرمي الى “تحقيق الاستقرار في الاسعار” وهذا هو جوهر عمل المصارف المركزية ولن يستقيم ذلك الاّ في ظل العمل على إعادة تفعيل السوق القانونية الحرة للعملات والتي إعتدى المصرف المركزي على صلاحياتها بشكل غير قانوني مع الإشارة إلى أن هذه السوق مشار إلى حصريتها المادتين ٩ و ١٠ من المرسوم الإشتراعي الرقم ١٢٠ لعام ١٩٨٣ وعمل المصرف المركزي بها يتصل بشكل كلي مع القاعدة العلمية التي تحدد سعر صرف العملة الوطنية والتي لا يدخل بها عنصر العملات الاجنبية ومع الاشارة الى ان الارباح الناتجة من جراء تدخله في هذه السوق بالإضافة الى جميع أرباحه المكونة من جراء عمله بصفتيه “التظيمية والتجارية[1]” تشكل الإحتياطات بالعملات الاجنبية المملوكة منه والتي تختلف عن الاحتياطي الإلزامي المملوك للمصارف والمتناقضة تماماً مع تعاميم التوظيفات الإلزامية، ومع التشديد بأنه ومن هذا المنطلق مع سواه يقتضي أن يتم إدراك سائر المهام المناطة بمنصب الحاكم بسبب الإتصال الوثيق بين المبدأ المشار اليه اعلاه وبين تتابع المسؤوليات لناحية :المحافظة على سلامة النقد اللبناني، وعلى الاستقرار الاقتصاي وسلامة اوضاع النظام المصرفيو تطوير السوق النقدية والمالية وفق المقتضيات الحديثة.
من هذه المنطلقات العلمية نصل إلى موضوع البحث وفق الآتي بيانه:
1- يقتضي عدم تعيين Broker او عميل بالاسواق المالية حاكماً لمصرف لبنان والإبتعاد عن المواصفات الشبيهة له:
يقول العلامة الأميركي من أصل لبناني من بلدة الكورة البروفسور نسيب نقولا طالب الباحث في علم المخاطر المالية وصاحب نظرية البجعة السوداء ما حرفيته :
“[…] Don’t ask a general for advice on war, and a broker for advice on money.”[2]
بما معناه:
” لا يجب ان لا نسأل جنرالاً عن نصيحة في الحرب ولا Broker عند تعلق الأمر بالمال.”
ويؤيد هذا المنحنى كبار الأساتذة في علم النقد منهم الدكتورة الاستاذة Janet Yellen والتي إستلمت منصب كبيرة المستشارين الاقتصاديين في البيت الابيض كما ومنصب حاكم المصرف المركزي الفيدرالي وقد صرحت بأن سبب نجاحاتها هي عدم عملها ب wall street ؛.
ولا بدّ من الإشارة إلى إستقاء هذا الشرط المشار إليه أعلاه نابع بكليته من مبدأ جوهري أعلى قيمة وهو ضرورة تحقيق “إستقلالية المصرف المركزي” كعنصر جوهري لحماية سياسته وقراراته من اية إنحرافات، وهذا ما قد أسس له الأستاذ Rogoff.k [3] حينما دعى إلى الإلتزام بتعيين حاكم “محافظ” للمصرف المركزي، ويقول الأستاذ توبياس أدريانو والأستاذ أشرف خان في دراسة مشتركة لهما منشورة على موقع صندوق النقد الدولي[4] تحت عنوان “مساءلة البنوك المركزية واستقلاليتها وشفافيتها” ما حرفيته:
“تعتبر إستقلالية البنوك المركزية أمراً جديداً نسبيا – فقد إكتسبت الفكرة زخماً في سبيعنات القرن الماضي ولكن تبين أنها عامل قيَّم ومحَّقق للإستقرار بالنسبة للبلدان التي تسعى إلى تحرير قرارات السياسة النقدية من التأثير السياسي”
وفي دراسة أخرى للأستاذة Kristalina Georgieva تحت عنوان تعزيز “استقلالية البنوك المركزية لحماية الاقتصاد العالمي” منشورة على موقع صندوق النقد الدولي، ورد فيها ما حرفيته :
L’indépendance est un ingrédient essentiel pour remporter la bataille contre l’inflation et stabiliser la croissance à long terme mais la vague d’élections qui se profile cette année risque de mettre les décideurs sous pression.
بما معناه :
“ويتبين من دراسة أجراها صندوق النقد الدولي تتناول عشرات البنوك المركزية خلال الفترة من 2007 حتى 2021، أن البنوك التي حصلت على درجات عالية في الاستقلالية كانت أنجح من غيرها في إبقاء توقعات الناس بشأن التضخم تحت السيطرة، مما ساعد على بقاء التضخم في مستويات منخفضة. وللاستقلالية أهمية بالغة، كما أصبحت سائدة على نطاق أوسع بين البلدان على كل مستويات الدخل.”
ويكمن سبب عزوف رجالات العلم عن قبولهم بترشيح رجالات المال و ال Broker والعاملين في الاسواق المالية لمنصب حاكم مصرف مركزي في شخصية هذا ال Broker والعميل بالاسواق المالية التي تنحو بإتجاه عدم التقيّد بالنصوص لأنه يعتقد بأنه يحوز سلطات أعلى تُمكنه من الخروج عن الأحكام القانونية، وبأنها لا تعنيه، وبأنه يملك من القدرة على تجاوزها بشكل كلي وحتى انه لا يضعها ضمن سلة المحاذير ؛
وبما ان سبب وقوع الجمهورية اللبنانية بما هي عليه راهناً يكمن في إرتكابات وإنحرافات عن النصوص القانونية حصلت بشكل مُمنهج من قبل الحاكم السابق ال Broker والعميل في الاسواق المالية في شركات مالية بسبب خروجه بالتعاميم الصادرة عنه عن الأحكام المرعية الإجراء في قانون النقد والتسليف والتي ممكن تقسيمها الى قسمين:
– الاولى، سعت الى إستقطاب الدولارات خلافا لاحكام القانون، وهي المقاصة الداخلية بالدولار والتوظيفات الالزامية والهندسات المالية وشهادات الإيداع.
– والثانية، سعت إلى تحوير الإرتكابات وإطفاء المخالفات القانونية الجسيمة التي دأب على ممارستها من جيوب غير المرتكبين وتحميل نتائجها للدولة والمودعين والشعب برمته.
الأمر الذي يوجب معه الأخذ بالمعيار الأول وإبعاد اي Broker او عميل في الاسواق المالية او متصل بذلك عن منصب الحاكمية.
2- يقتضي ان يكون الحاكم رجل قانون وعلى علم ودراية متينة بقانون النقد والتسليف ويملك شخصية توحي بالثقة والاحترام والوقار :
يجب حصر معايير التعيين بأشخاص يملكون خلفية علمية قانونية أمثال الدكتور ادمون نعيم لما في شخصية رجل القانون من مهابة تعكس سلطته على القطاع المصرفي مقرونة بإتزان وعدم تساهل وعدم حيد عن الأنظمة المرعية الإجراء، إضافة الى ان رجل القانون يملك بطبيعته مهابة ووقار هي ضرورية لممارسة موقع الحاكمية، (علماً أن هذا الشرط قد ألمحت إليه المادة 18 من قانون النقد والتسليف حينما أشارت إلى ان القسم الذي يجب ان يقسمه الحاكم بين يدي رئيس الجمهورية يجب ان يتضمن عبارة “إحترام القانون” .)
3- أن يكون مستقل وغير مشارك بصورة مباشرة او غير مباشرة بكل ما كان يحصل سابقاً في المصرف المركزي كما ويملك شخصية توحي بالمهابة.
4- إضافة إلى كونه رجل قانون متخصص الا انه يقتضي أن يكون أيضاً على إلمام عميق ببواطن كتلة المشروعية في الجمهورية اللبنانية لا سيما قانون النقد والتسليف الذي يولي الحاكم السلطة الكاملة لمنع ووقف الإقتصاد النقدي، مع التركيز على ان يكون متمرس بقوانين اعادة الهيكلة وكيفية تفعيلها ومقاربتها من مفهوم قانوني صرف يرتكز على فرادة الأزمة اللبنانية لناحية انها الوحيدة في العالم التي نتجت من جراء أعمال خرجت عن حدود قانون النقد والتسليف قام بها الحاكم السابق ال Broker والعميل في الاسواق المالية، مما سيؤدي إلى الخروج بسرعة من الحالة السلبية التي يمر بها النظام المصرفي.
هذه هي المعايير الأكاديمية العلمية الأساسية التي يقتضي إتباعها لإختيار حاكم للمصرف المركزي نضعها بتصرف من يهمه الأمر ومن له سلطة التقرير إضافة الى سائر المتوجبات المفروضة في قانون النقد والتسليف.
المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر
[1] – Sui generis المصرف المركزي يتمتع بصفة
[2] – https://quotefancy.com/quote/1529325/Nassim-Nicholas-Taleb
[3] -Rogoff Kenneth , “The optimal degree of commitment to and intermediate monetary target” Quarterly Journal of Economics, November, 1985, p 1169-1189. https://academic.oup.com/qje/article-abstract/100/4/1169/1895960?redirectedFrom=fulltext
[4]- من هذه الدراسات المنشورة على موقع صندوق النقد الدولي نجد:
Interactions Between Public and Private Sector Wages and Inflation in Mongolia
ByTigran Poghosyan- March 14, 2025
Central Bank Legal Frameworks in the Aftermath of the Global Financial Crisis
ByAshraf Khan – May 1, 2017
وللتوسع حول الموضوع :
L’indépendance des banques centrales renforce-t-elle l’efficacité des politiques économiques ? https://creg.ac-versailles.fr/l-independance-des-banques-centrales-renforce-t-elle-l-efficacite-des