إقتصادالاحدث

أَجمَلُ كَلِمَةٍ في القاموس | بقلم د. بيار الخوري

عندما يقولُ الرئيسُ الأميركي دونالد ترامب إنَّ “التعريفات الجمركية” هي أجملُ كلمةٍ في القاموس، فهو لا يتحدَّثُ عن الجمال كما نفهمهُ عادةً، ذلك الجمالُ الذي يَرتَبِطُ بالمشاعر الإنسانية، بالإلهام، بالعدالة، أو بالوعد الكبير الذي يجعلُ الأُمَم حاضرة عبر الأزمنة. بل يُشَوِّهُ فكرةَ الجمالِ ليُصبح أداةً للهيمنة الاقتصادية والسياسية، حيث تتحوَّلُ اللغة من كونها تعبيرًا عن القِيَمِ إلى مجرَّدِ وسيلةٍ لتبرير المصلحة.

في عالمِ السياسة، الكلماتُ ليست مجرّدَ أدوات تواصُل، بل تعكسُ تصوّراتٍ وإيديولوجيات كاملة. حين يختارُ رئيسُ دولةٍ بحَجمِ الولايات المتحدة كلمةً مثل “التعريفات الجمركية” باعتبارها الأجمل في القاموس، فهو لا يُشيرُ إلى اللغة، أو المفاهيم التي تُلهِمُ البشرية، بل يُعبّرُ عن رؤيةِ تَحَوُّلِ القِيَمِ البشرية إلى سوق، والسياسة إلى صفقات، والعلاقات الدولية إلى موازين قوة عارية. وهو لا يعكسُ فقط ميوله الشخصية، بل يُعبّرُ عن توجُّهٍ عالمي يَتّجِهُ تدريجًا نحو استبدالِ القِيَمِ الكبرى مثل التعاون، العدالة، والإبداع، بمنطقِ المصالح المادية المُطلقة.

عندما نُقارِنُ ذلك بمفهومِ الجمالِ عند مُختلفِ الفئات في المجتمع، نرى كيفَ أنَّ هذه الرؤية تقفُ على النقيضِ تمامًا من مفهومِ الجمال كما يفهمه الناس. أجملُ كلمة في القاموس لدى الشباب هي الأمل، العمّال هي العدالة، الباحثين هي الاكتشاف، الفنانين هي الإلهام، القادة العقلانيين هي السلام، والمعلمين هي المعرفة. لكلِّ فئة نظرتها إلى جمال اللغة التي تعكسُ تطلّعاتها وقِيَمَها، وهي جميعها تشترك في كونها ذات بُعدٍ إنساني. حتى في عالم السياسة، فإنَّ رجالَ الدولة العظماء طالما وجدوا الجمالَ في الوطن، في الاستقرار، في القدرة على بناء مستقبل للأجيال المقبلة. وأعظم الكلمات في قواميسنا جميعًا الله ثم العطاء.

لكن ترامب، ومن خلال اختياره هذا، يُقدّمُ رؤيةً بديلة للتاريخ الإنساني، حيثُ لا يُوجَدُ مجالٌ للقِيَمِ الكُبرى أو الأحلام الجماعية، بل فقط للقوة الاقتصادية كأداةِ فَرضٍ وابتزاز. إنّهُ مفهومٌ للجمالِ قائمٌ على الربح والخسارة، وليس على الإبداع أو العطاء. هذه الرؤية تتجاهلُ حقيقةَ أنَّ الأُممَ العظيمة لم تُبنَ على التعريفات الجمركية أو ما يُشبهها مهما كبر، بل على أفكارٍ أعطت الناس معنًى أكبر لحياتهم، ولموتهم دون هذه الأفكار أيضًا.

هنا، تكمُنُ المشكلة الكبرى: عندما يصبحُ الجمالُ، ذلك المفهوم الذي لطالما ألهَمَ البشرية، مجرّدَ أداةٍ اقتصاديةٍ قهرية، فإننا لا نشهدُ فقط تحوُّلًا في الخطاب، بل انحدارًا في القِيَم. الأمم لا تموت فقط عندما تخسرُ حروبها أو تفقدُ اقتصادها، بل عندما تفقدُ إيمانها بالقيم التي تجعلها تستحق البقاء. وعندما يكون الجمالُ في عيون القيادة العالمية مجرّدَ أداةٍ للنفع الاقتصادي، فإننا نكونُ أمامَ مرحلةِ ذبولٍ حقيقي ليس لدولةٍ واحدة، بل لنظامٍ يَحكُمُ العالمَ بأسره.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى