من الواضح أنَّ الِنزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا قد وصل حالياً إلى مرحلةٍ مُتقدمة، تتميز بالمواجهة والمكاشفة، حتى بات تبادُل الإتهامات بينهما صريحاً دون مواربة أو تجميل.
بالأمس كشفَت وكالة Bloomberg الأمريكية خُطة الغرب لسرقة موارد الدول النامية من الطاقة، وفي الوقت نفسه أشادت الوكالة الأمريكية بدور روسيا في إنقاذ العالم من وقاحة لُصوص أوروبا!
كيف يمكن أنْ يحدُث أمرٌ كهذا؟
وما تفاصيل تلك القصة؟
أوروبا، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا تسرق إمدادات الدول النامية من الغاز.
في مفاجأة من العيار الثقيل، وجَّهَت وكالة Bloomberg الأمريكية إتهاماً واضحاً وصريحاً إلى دول الإتحاد الأوروبي، بإستجرار المواد الخام من الغاز وسحبها من دول أخرى؛ مما يؤدي إلى إرتفاع كبير في أسعارها. وبحسب الوكالة الأمريكية، فإنَّ روسيا ستُساعد في إمداد الدول النامية بالغاز بعدما إصطدمَت تلك الدول بنقص حادٍّ في مواردها بسبب أوروبا التي تشتري كلَّ الوقود المُتاح في السوق العالمي، ونقلَت الوكالة عن سول كافوتش المحلل في مؤسسة Credit Swiss Group Gab، قوله إنَّ قلق أوروبا بشأن أمن الطاقة في دولها يُسبب النقص والعوز في مجال الطاقة في العالم النامي، وشدَّد المُحلل في حديثه للوكالة على أنَّ ما تقوم به أوروبا يُقلل من فرص تنظيم إمدادات الطاقة طويلة الأجَل للمناطق الفقيرة في العالم، مُشيراً إلى أنَّ الإتحاد الأوروبي بعد أنْ فقَد إمدادات الغاز الروسي إتجه نحو السوق الحرة للغاز، حيث يمكن شراء هذا الوقود من دون عقود طويلة الأمد؛ وهذا بدوره يدفع الأسعار إلى الإرتفاع الجُنوني؛ ومن ثَمَّ يقوم بعض البائعين بإلغاء عقود بيع الوقود لدول جنوب آسيا المُوقَّعة منذ فترة طويلة بهدف بيعه في أماكن أخرى تدفع أكثر، وهو ما يضع الدول الفقيرة في ورطة من أجل أنْ تحمي الدول الأوروبية نفسها، وهذا الأمر بالتأكيد يُخالف كلَّ الأعراف الأخلاقية والإنسانية، ويجعل من أوروبا لِصاً كبيراً يستولي على نصيب الشعوب من الطاقة.
أوروبا تُكدِّس الغاز لديها وتخنق غيرها.
صحيفة أمريكية أخرى هي The Wall Street Journal أشارت قبل أسابيع إلى أنَّ سعر الغاز الطبيعي المُسال الذي يمكن نقله بالسفن حول العالَم، إرتفع بعد بلوغه أدنى مُستوياته قبل عامين إبّان تراجُع الطلب مع إنتشار جائحة كورونا، وبحسب الصحيفة أصبحَت أسعار الغاز الطبيعي المُسال تساوي أكثر من ضِعف سعر النفط، رغم أنَّ الغاز يجري تداوُله بسعر أقل من النفط، ثُم عادت The wall Street Journal وأضافت في تقريرٍ لها أنَّ الدول النامية لا تستطيع منافسة نظيرتها الأوروبية على شحنات الغاز بأسعار باهظة كهذه، والتي وصلت إلى قرابة ٤٠ دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية؛ مما يعني أنَّ الدول الأفقر، من الهند وحتى البرازيل بدأت في تقليص وارداتها من الغاز الطبيعي المُسال، وحتى الصين ألغَت بعض إتفاقيات شراء الغاز.
أوروبا تخلق أزمة طاقة في الدول النامية.
لم يكن ما أوردتْه وكالتا Bloomberg و Wall Street Journal الأمريكيتان سوى نقطةٍ في بحر إنتقادات وجَّهها خبراء ومحللون إلى القارة الأوروبية، حيث كتب ماتياس بيار في عاموده في مجلة أعمال HandlesBlatt الألمانية قائلاً: “في محاولة لرفض الإمدادات من روسيا تأخذ أوروبا الغاز من الدول النامية؛ مما يؤدي إلى أزمة طاقة هناك.”
ووفقاً للكاتب الصحفي الألماني، فقد لُوحظ بالفعل مُشكلات في إمدادات الكهرباء في بنغلادش وباكستان. كما أضاف بيار الرغبة في التحرر من الإعتماد على الغاز الروسي.
والجدير بالذكر أنَّ الإتحاد الأوروبي يتسبب في إضطراب هائل في أسواق الطاقة العالمية، والذي أصاب البلدان الفقيرة بشكل خاصٍّ.
كاتب المقال شدَّد كذلك على أنَّ رغبة أوروبا في إيجاد مصادر بديلة لها ينبغي أنْ يتمَّ عن طريق تحويل موارد الطاقة عن أجزاء أخرى من العالَم، مُوضحاً أنَّ جزءاً كبيراً من أسطول الناقلات الذي كان حتى وقت قريب ينقل الغاز الطبيعي المُسال بشكل أساسي إلى آسيا يتَّجه الآن إلى أوروبا للتعويض عن نقص الغاز في المنطقة.
وأفاد الخبراء بأنَّ هذه الصفقاتِ تظلُّ مُربحة حتى لو إضطر َّ المورِّدون لدفع الشروط الجزائية المنصوص عليها في عقودهم مع الدول النامية، وبحسب ما يراه الكاتب الألماني فإنه لا ينبغي للإتحاد الأوروبي أنْ يحلَّ مشكلات الطاقة لديه على حساب دول جنوبي العالَم، مُنبِّهاً إلى أنَّ تصرُّفات دول أوروبا، أدَّت بالفعل إلى تفاقُم مُعاناة ملايين الأشخاص في الدول النامية وهو ما يخلق كارثة إنسانية كبيرة يجب التصدي لها.
الدول النامية عن الأوروبيين.
سرقوا كلَّ ذرَّة غاز من حقِّنا.
في باكستان، قال مسؤولون إنَّ المناقصة الحكومية لشراء غاز طبيعي مُسال بقيمة مليار دولار لم تجذب أيَّ عطاءات، حيث تُعاني المنازل والشركات من إنقطاع الكهرباء الذي تفرضه الحكومة لساعاتٍ يومياً نتيجة عجز البلاد عن إستيراد الغاز الطبيعي المُسال لإمداد محطات الطاقة بالوقود، فيما لجأت بنغلادش إلى قطع التيار الكهربائي لساعاتٍ معينة في اليوم، ولجأت الهند أيضاً إلى إستخدام الفحم والغاز الطبيعي المحلي بدرجة أكبر.
يقول وزير النفط الباكستاني، مُصدق مسعود مالك: أن أوروبا قد إشترت كلَّ ذرَّة غاز طبيعي مُسال موجود في مِنطقتنا بسبب الحرب في أوكرانيا لأنهم يحاولون تقليل إعتمادهم على روسيا، وسنحَت أمام موردي ومتداولي الغاز الطبيعي المُسال فرصة لبيع إنتاجهم للدول الأوروبية صاحبة الجدارة الإنتمائية الأفضل، في حين تسارعَت تلك الدول لتأمين مخزونها قُبيل الشتاء.
أما الخبير الاقتصادي في أسواق الطاقة بشركة Baringa الإستشارية كاسبيان كونران، فقال في تصريحاتٍ صحفية يمكن أنْ تقطع روسيا. الإمدادات في أيِّ لحظة لهذا تُسارع دولنا الأوروبية بيأس لتقليل إعتمادنا على مصدر الغاز المذكور ويوفر الغاز الطبيعي المُسال البديل الفعلي الوحيد الذي يمكن توسيع نطاقه سريعاً في الوقت الراهن.
يُذكر أنَّ واردات الدول الأوروبية من الغاز الطبيعي المُسال زادت بنسبة ٤٩ % بالمئة منذ بداية العام وحتى حزيران الماضي وفقاً لبيانات شركة Wood Mackenzie Power and renewables لإستشارات الطاقة؛ وعلى صعيد آخر تراجعَت واردات الهند بنسبة ١٦ % بالمئة، وواردات باكستان بنسبة ١٥ % بالمئة خلال الفترة نفسها.
ماذا يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن سلوك بعض الدول الأوروبية؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين علَّق على هذا الموضوع قائلاً إنَّ الدول النامية ستتأثر بإرتفاع أسعار الغاز العالمية مُستنكراً السلوك الأوروبي الذي أدى إلى إرتفاع أسعار الغاز، وأكد بوتين في كلمته بمنتدى أسبوع الطاقة أنَّ الرفاهية في أوروبا كانت مُقترنةً بالتعاون مع روسيا لافتاً إلى أنَّ تحديد سقف أسعار الغاز سيُكبِّد أوروبا خسائر تُقدَّر بمئات المليارات، كما أضاف الرئيس الروسي أنَّ كلَّ ما يحدث في أسواق الطاقة حالياً من أزماتٍ هو نتيجة حقيقية لسياسات خاطئة إتخذها الغرب لسنواتٍ سابقة، وذكر أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تُجبر الدول الأوروبية على شراء الطاقة بأسعار غالية جداً، مُشيراً إلى أنَّ هُناك مُحاولة أمريكية للسيطرة على أسواق الطاقة في أوروبا.
يبدو أنَّ أوروبا الإستعمارية لم تتغير وإنْ تغيرَت الأساليب؛ فقديماً كانت تحتلَّ دول العالم الثالث عسكريًّا حتى تَستنزف مواردها، واليوم تسطو على حقوق الدول النامية من الغاز حتى تضمن البقاء والثبوت لنفسها أمام أزمة الطاقة التي تعصف بها.
ترى أين ذهبت الإنسانية؟ وكيف إختفت الرحمة أمام المصالح؟!.