إذهبوا إلى الإنتاج لا إلى الضرائب! | بقلم أحمد بهجة
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
حصلت تطورات سياسية عديدة على الساحة اللبنانية خلال الأيام الماضية، ولكن بقيت الهموم الاقتصادية والاجتماعية والمالية طاغية على أولويات الناس، لأنّ الأوضاع المعيشية الضاغطة لا تعطي المواطنين فرصة للاهتمام بأمور أخرى أقلّ أهمية، لا سيما في ما يخص المرشحين للانتخابات النيابية أو الذين قرّروا الاعتكاف والابتعاد عن السياسة في المرحلة الحالية.
لذلك نرى أنّ مشروع الموازنة العامة المفترض أن تبدأ الحكومة بمناقشته هو محط التركيز والمتابعة، وخاصة أنّ المشروع تضمّن سلة من الضرائب الجديدة التي ستُفرض على اللبنانيين الذين أصبحوا بغالبيتهم العظمى تحت خط الفقر!
لا نقاش في أنّ الخزينة العامة بحاجة إلى مداخيل جديدة وكثيرة حتى تستطيع القيام بالأعباء المتزايدة الملقاة على عاتقها، وهي أعباء كبيرة جداً لأنّ كلّ القطاعات بدون استثناء بحاجة إلى دعم وإسناد من الدولة، بدءاً من القطاع الصحي ثم التربوي مروراً بضرورة تلبية حاجات الموظفين في القطاع العام وبنوع خاص المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية، وصولاً إلى أولوية الاستثمار في قطاعات الكهرباء والاتصالات، إضافة إلى ما يجب أن يُعطى للزراعة والصناعة والسياحة والخدمات المختلفة.
على أنّ تأمين الموارد لتمويل كلّ هذه الحاجات الأساسية لا يمكن أن يكون من جيوب المواطنين، لأنّ هذه الجيوب فارغة لا مال فيها إلا في ما ندر، وإذا بقي القليل في بعضها فهو لزوم تأمين الحدّ الأدنى من متطلبات الحياة اليومية للأسر والعائلات التي أُجبرت على تغيير عاداتها الاستهلاكية والاكتفاء بالأساسيات أو بجزء منها.
كان يجب على مَن أعدّوا مشروع الموازنة أن يخرجوا من الإطار النمطي المتبع منذ ثلاثة عقود حين أطلقت سياسات الاستهلاك والريع والمضاربات المالية والعقارية، على أساس أنّ تلك السياسات هي من صلب مسيرة الإنماء والإعمار التي اكتشف اللبنانيون متأخرين أنها ليست سوى أوهام.
الخروج من الإطار النمطي السابق يعني نقل الموازنة من كونها مجرد أرقام حسابية لمداخيل الخزينة ونفقاتها، وجعلها انعكاساً لخطة تعافي اقتصادي ومالي تضع تنمية قطاعات الإنتاج في رأس أولوياتها. ذلك أنّ العقل الاقتصادي الذي وضع ذلك النمط لم يتنبّه في مطلع التسعينات إلى أنّ لبنان مداخيله محدودة وهو بحاجة ماسّة لزيادة هذه المداخيل من خلال قطاعات الاقتصاد الحقيقي التي يتطلب العمل فيها جهوداً وعقولاً وسواعد، لكن ما حصل هو العكس، فقد أهملت قطاعات الإنتاج، وصار التركيز فقط على تنمية القطاع المصرفي مثلاً من خلال رفع أسعار الفوائد إلى أرقام فلكية وصلت في أيلول 1995 إلى نحو 43 في المئة، فتراكم الدين العام وتضاعف مرات ومرات، وازدادت الحاجة للاستدانة أكثر فأكثر لتسديد تلك الفوائد المرتفعة جداً ولسدّ العجز في الخزينة التي لا تأتيها الواردات الكافية بسبب غياب الإنتاج…
ولأنّ الموازنة العامة وفق الإطار النمطي السابق هي مجرد أرقام حسابية، لم يكن لدى أولئك مشكلة في عدم إصدار الموازنة والسير خلافاً للقوانين وفق القاعدة الاثنتي عشرية طيلة عشر سنوات، وأيضاً لا مشكلة لديهم إذا تحفّظ ديوان المحاسبة ولم يصادق على قطوعات الحسابات لأنه مع كلّ استعادة للحسابات المالية، تتجدّد الأدلّة على الفوضى التي حكمت وزارة المالية نحو ثلاثة عقود من الزمن. “إنفاق لا يحترم قانون الموازنة وواردات لا تسجّل وسلف لا تدفع”… تلك هي الخلاصة التي توصّل إليها ديوان المحاسبة عام 2020 حين أنهى حسابات عام 1997، إذ بقي عليه تدقيق حسابات السنوات اللاحقة ما يعني أنّ الطريق طويلة لإعادة الانتظام المالي، وهذا يفتح المجال أمام من سرق أو هدر المال العام للقول بأنّ التسوية المالية لا تزال ممكنة.
المطلوب إذن موازنة عامة مختلفة في بنودها وأهدافها، والمطلوب أيضاً خطة تعافي مالي واقتصادي مع قليل من الجرأة السياسية لاتخاذ القرارات المناسبة في مجلس الوزراء والمصادقة عليها في المجلس النيابي. وهنا على سبيل المثال ماذا يمنعنا من قبول العرض الروسي لبناء مصفاة نفط في الزهراني على طريقة bot، لتكرير النفط الخام الروسي وإعادة تصديره على أن يأخذ لبنان حاجته من إنتاج المصفاة، والذي يبدأ في غضون 18 شهراً من تاريخ توقيع العقود. فاليونان مثلاً تحقق مداخيل تفوق عشرة مليارات دولار سنوياً من مصافي النفط، وهي دولة غير نفطية.
كذلك هناك العروض الصينية لإنشاء خطوط سكك الحديد من الجنوب إلى الشمال ومن بيروت إلى المصنع إضافة إلى إنجاز نفق حمانا ـ شتورا، أيضاً على طريق bot، حيث لا تتكلف الدولة شيئاً وفي الوقت نفسه يتمّ إنجاز مشاريع إنمائية وإنتاجية تدرّ المداخيل للخزينة ولعدد كبير من المواطنين لأنّ هذه المشاريع من شأنها هي نفسها خلق آلاف فرص العمل، فضلاً عن الأثر الإيجابي جداً الذي سوف ينعكس على دورة الاقتصاد الوطني.
تحدثنا عن العروض الروسية والصينية كنموذج يمكن اعتماده من ضمن خطة التعافي، وهناك أيضاً العروض الإيرانية لبناء محطات لإنتاج الكهرباء ولتزويد لبنان بما يحتاجه من محروقات بالليرة اللبنانية… كذلك لا بدّ من عودة العلاقات مع سورية إلى طبيعتها وما يعكسه ذلك من إيجابيات على قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة… لأنّ سورية هي المفتاح الطبيعي إلى الدول العربية وإلى الشرق عموماً…
كلّ ما تقدّم لا يمنع أبداً استمرار التفاوض مع صندوق النقد الدولي، بل على العكس، لأنّ إعادة لبنان إلى سكة الإنتاج تسهّل المفاوضات وتجعلنا أكثر قدرة على الاستجابة لبعض الشروط القاسية التي يفرضها صندوق النقد عادة على الدول المتعثرة، مثل تخفيف حجم القطاع العام وزيادة الضرائب وغير ذلك من أمور يصبح بالإمكان تحمّلها إذا توفرت للخزينة العامة مداخيل من مصادر أخرى تستطيع من خلالها التعويض على الناس وتوفير فرص عمل بديلة للذين فقدوا وظائفهم وتأمين الحدّ المقبول من الحماية الاجتماعية للأسر التي تتأثر من سلبيات خطة التعافي المالي والاقتصادي.
ختاماً… لا بدّ من إدخال التعديلات اللازمة على مشروع الموازنة العامة، إذ لا يجوز مطلقاً أن تكون الموازنة معاكسة لخطة التعافي…