إقتصادالاحدث

الأمم المتحدة لا تزالُ أفضل مُنتدى لمُعالَجةِ حَوكَمة الذكاء الاصطناعي | بقلم غابي طبراني

في ثُلاثِيةِ “مشكلة الأجسام الثلاثة” (The Three-Body Problem) لمؤلّفِ الخيالِ العلمي الصيني ليو سيشين والتي تمَّ تحويلها أخيرًا إلى مسلسلٍ تلفزيوني على “نِتفليكس” (Netflix)، تُواجِهُ الأرضُ غزوًا فضائيًا بعدَ أربعةِ قرونٍ في المستقبل. ولتخطيطِ وتنفيذِ الدفاع الكوكبي، تلجأُ البشرية إلى الأمم المتحدة. وتحت قيادة الأمين العام الذي يبدو أنه يتولّى سلطة رئيس وزراء عالمي، تقوم المنظمة الدولية بسرعةٍ بتشكيلِ مجلسٍ يتمتّعُ بالموارد والتفويض للعملِ نيابةً عن الإنسانية.

إنَّ مثلَ هذه التصويرات الخيالية للأمم المتحدة باعتبارها حكومةً عالمية مُوَحَّدة وفعّالة قادرة على إدارة الأزمات الكوكبية جذّابة بقدر ما هي خيالية. إنَّ الأزماتَ المُتَعَدِّدة التي نشهدُها اليوم والتي تتألّفُ من حروبٍ مُتَصاعِدة، وكوارث بيئية مُتتالية، واضطرابات اجتماعية، تَستدعي قدرًا أعظم من الزعامة الدولية. مع ذلك، كثيرًا ما تبدو الأمم المتحدة عاجزة. إنَّ قراراتَ مجلسِ الأمن الدولي لا تفعلُ الكثير لرَدعِ العدوان الروسي ضد أوكرانيا أو الهجوم الإسرائيلي الوحشي والعشوائي على غزة؛ وأهداف التنمية المستدامة بعيدة المنال؛ وعلى الرُغم من عقودٍ من الاجتماعاتِ الدولية المُتَعَلّقة بتغيُّرِ المناخ، فإنَّ انبعاثاتَ الكربون تستمرُّ في الارتفاعِ كلّ عام.

مع ذلك، يبدو أنَّ الأمم المتحدة مُستَعدّة الآن للاضطلاعِ بدورٍ قيادي في أحد التحدّيات العالمية الناشئة: إدارة الذكاء الاصطناعي، الذي يرى البعضُ أنَّهُ يُشَكِّلُ تهديدًا وجوديًا لا يختلفُ عن غزوِ الكائنات الفضائية. لا يُجادِلُ كثيرون في أنَّ التعاونَ الدولي ضروريٌّ للتخفيفِ من المخاطرِ المُحتَمَلة للذكاءِ الاصطناعي. وقد دعا قادة الشركات والحكومات على حدٍّ سواء إلى إنشاءِ هيئاتٍ دولية مختلفة للذكاء الاصطناعي، سواء على غرار الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ، أو المنظمة الدولية للطيران المدني، أو الوكالة الدولية للطاقة الذرية. في العام الماضي، شكّلَ الأمين العام أنطونيو غوتيريش لجنةً استشارية من الخبراء لاقتراحِ ملامح إنشاء وكالة مُحتَمَلة للذكاء الاصطناعي تابعةً للأمم المتحدة. وقد تلقّى هذا الطموح دفعةً قوية في آذار (مارس)، عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع قرارًا بقيادة الولايات المتحدة التزمَت فيه الدول الأعضاء، البالغ عددها 193 دولة، بتعزيزِ الذكاء الاصطناعي الآمن والجدير بالثقة ــ وهو تعبيرٌ نادرٌ عن الإجماع الدولي.

ولكن، يبدو من المشكوك فيه أن تقومَ حكوماتُ العالم بدَعمِ هذه الأقوال بالأفعال في أيِّ وقت قريب. في الأسبوع الفائت، ذكرت المنصّة الإعلامية لمجتمع التنمية العالمي “ديفيكس” (Devex) أنَّ الولايات المتحدة وَزَّعَت ورقةً سرّية على حكوماتٍ أخرى في الأمم المتحدة تقول فيها إنه سيكونُ من السابق لأوانه إنشاء أي “عملية و/أو لجان وصناديق و/أو شراكة و/أو آليات” جديدة لحَوكَمَةِ الذكاء الاصطناعي، على الرُغم من توصياتِ المجلس الاستشاري للذكاء الاصطناعي الذي عيّنه غوتيريش في العام الماضي. ربما يكونُ من السابقِ لأوانه بناءُ تعاونٍ دولي في مجالِ الذكاء الاصطناعي، لأنَّ القوانين والنُظُم الوطنية لم تتشكَّل بعد. مع ذلك، فإنَّ الاتجاهَ المتزايد لقومية الذكاء الاصطناعي -أو الرغبة في ممارسة السيطرة السيادية على التكنولوجيا- يُشيرُ إلى أنه في السنوات المقبلة، سوفَ يُصبحُ من الصعبِ على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الاتفاق على إنشاءِ أيِّ نوعٍ من المؤسّسات الذي قد يَحُدُّ من قدرتها على تطوير التكنولوجيا والتحكُّم فيها. وهذا لا يُبَشِّرُ بالخير لقدرة البشرية على توجيه الذكاء الاصطناعي في اتجاهٍ يَدَعَمُ حقوقَ الإنسان والمساواة.

هذا لا يعني أنَّ إنشاءَ هيئة جديدة تابعة للأمم المتحدة هو شرطٌ أساسي لحَوكَمَةِ الذكاء الاصطناعي العالمية. إنَّ التكنولوجيا وتأثيراتها كثيرة التنوّع وواسعة النطاق بحيثُ لا يُمكِنُ إدارتها من قبل وكالةٍ دولية واحدة أو معاهدة دولية واحدة. بدلًا، سوفَ يتطلّبُ الأمرُ نظامًا بيئيًّا فوضويًا من المؤسّسات والأندية والاتفاقات للقيام بذلك. يصف ستيوارت باتريك وإيما كلاين من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي هذا الهيكل الناشئ بأنه نظامٌ “مُتعدّدُ الأطراف” — مجموعةٌ مُتشابِكة ولكن مُجَزَّأة من الهيئات الحكومية الدولية الجديدة والقائمة، والمبادرات الإقليمية، وشبكات الشركات والمجتمع المدني الطوعية، وغيرها من الجهود الهادفة إلى تحقيقِ أهدافِ التنمية المُستدامة التي يمكنها القيام بوظائف الحَوكَمة المختلفة.

لكن من الناحية المثالية، ينبغي للأمم المتحدة أن تستمرَّ في لعبِ دورٍ قيادي في نظامِ الحُكمِ البيئي هذا. فهي تظلُّ الطاولة الوحيدة التي يجلس إليها وحولها كل بلد، ما يمنحها مصداقية فريدة يُمكِنُ من خلالها توليد الإجماع العالمي حول مخاطر الذكاء الاصطناعي وفُرَصه، ووَضع أجندةٍ دولية لحَوكَمته. يُعَدُّ مثلُ هذا الفَهمِ المُشتَرَك القائم على العِلمِ للذكاء الاصطناعي ضروريًا –وإن لم يكن كافيًا- لتخفيفِ الضررِ المُرتَبِط بالتكنولوجيا، على نحوٍ مماثل، بالنسبة إلى تغيّر المناخ، كانت صورة حقائق وتأثيرات ظاهرة الاحتباس الحراري التي جمعتها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّرِ المناخ ضرورية لتنظيمِ وتوجيهِ العمل الجماعي.

لكن حتى مرصدٌ علمي قد يبدو وكأنه قَيدٌ كبير للغاية على السيادة الوطنية وقدرة الشركات على بناءِ ونشر نماذج جديدة للذكاء الاصطناعي بسرعة. في إشارةٍ واضحة، ترفض شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة، مثل “أوبن إي آي” (OpenAI) و”ميتا” (Meta)، تزويد معهد سلامة الذكاء الاصطناعي في المملكة المتحدة بإمكانيةِ الوصول إلى أحدث نماذجهما لاختبار ما قبل الإصدار، على الرُغم من التزامهما القيام بذلك في قمة “بليتشلي بارك” في بريطانيا التي عُقِدت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023.

في الوقت نفسه، أصبحت قوميّةُ الذكاء الاصطناعي هي النموذجَ السائد بين الحكومات. تتسابقُ دولٌ مثل سنغافورة وكندا والهند للاستثمار في شركات الذكاء الاصطناعي الوطنية ونماذج اللغات الكبرى التي هي وراء تطبيقات الدردشة الآلية التي تعتمدُ على الذكاء الاصطناعي مثل “تشات جي بي تي” (ChatGPT) من “أوبن إي آي” (OpenAI). ومع زيادة تكاليف بناء النماذج المُتقدِّمة وتزايد وضوح الجانب الإيجابي الاقتصادي والاجتماعي والجيوسياسي الهائل لإتقان الذكاء الاصطناعي، فمن المرجَّح أن تصبحَ البلدان أقل رغبةً في التعاون في جهود السلامة وتخفيف المخاطر التي ترى أنها قد تؤدّي إلى إبطاءِ التقدّمِ وتقويضِ السيادة.

ذات يوم قال الديبلوماسي الأميركي الراحل ريتشارد هولبروك مازحًا: “إنَّ إلقاءَ اللوم على الأمم المتحدة عن الخلل الوظيفي الدولي يُشبِهُ إلقاءَ اللوم على قاعة “ماديسون سكوير غاردن” عندما يخسر فريق كرة السلة النيويوركي “نيكس””. بعبارةٍ أُخرى، تُواصِلُ الأمم المتحدة صراعها مع ما يمكن أن نُطلِقَ عليه مشكلة الـ193 هيئة: الدولُ القوميّة هي الشكلُ المُهَيمِنُ للتنظيمِ السياسي في العالم، لكنها ليست مُجَهَّزة تجهيزًا جيدًا لحَلِّ التحدّيات الكوكبية وليست مُصَمَّمة للدفاعِ عن المصالحِ الفُضلى للإنسانية ككل، والتي غالبًا ما تتعارض مع الضرورات الوطنية.

مع ذلك، وعلى الرُغمِ من العيوب الكبيرة، فإنَّ الأُممَ المتحدة لا تزالُ أفضلَ مؤسّسة مُتاحة لتعزيزِ المصالح العالمية المشتركة للبشرية جمعاء، مثل ضمان عدم تسبّبِ الذكاء الاصطناعي في تشريدِ أعدادٍ كبيرة من العمال، أو تفاقُمِ فجوة التفاوتِ الاجتماعي والاقتصادي، وإغراق العالم بالمعلوماتِ المُضَلِّلة. ومع علمنا أنه حتى في مواجهة غزو كائنات فضائية، فمن المشكوك فيه أن تُصبِحَ الأمم المتحدة حكومةً عالمية قوية ومُوَحَّدة، فسيكون من الخطَإِ التخلّي عن الطموحِ لتعزيزِ الحَوكَمة العالمية الهادفة للذكاء الاصطناعي تحت رعايتها.

غابريال طبراني، كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

غبريال طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى