إقتصادالاحدث

الإنترنت المالي ” فِنتَرنت “: مزيد من الترابط العالمي ومزيد من المخاطر | بقلم حسـان خضـر

يسير العالم بتسارع كبير في ركب التطور المالي والتقني، وأبرزها المجال المالي ومنها الذكاء الاصطناعي AI أو التكنولوجيا المالية Fintech، الى العملات الرقمية والافتراضية المشفرة وآخرها البنوك الرقمية وأنظمة الدفع عبر الهواتف النقالة وغيرها. وقد تكون أحدث تلك الشطحات في مجال الترابط والتشابك العالمي هي “الانترنت المالي” أو ” فِنتَرنت ” Finternet والتي تعني العديد من النظم البيئية المالية المترابطة مع بعضها البعض، تمامًا مثل الإنترنت، ويطلق عليها البعض ” قفزة عملاقة للنظام المالي العالمي”.

وصاحبا هذا المقترح هما أوغستين كارستينز، المدير العام لبنك التسويات الدولية، وناندان نيلكاني، الملياردير الهندي في مجال التكنولوجيا الذي يقف وراء أكبر برنامج للهوية الرقمية في العالم.  يقول السيد كارستينز: “نحن نتوقع نظامًا يمكن للأفراد والشركات من خلاله نقل أي أصل مالي، بأي مبلغ، في أي وقت، باستخدام أي جهاز، إلى أي شخص آخر، في أي مكان في العالم،” و”ستكون المعاملات المالية رخيصة وآمنة وفورية تقريبًا ومتاحة لأي شخص”. (ورقة عمل قُدمت في بنك التسويات الدولية في شهر ابريل 2024 بعنوان: ” فِنترنت: النظام المالي للمستقبل”).

ويرى أصحاب تلك الفكرة بأن وجود هذا التطور والتقدم في التكنولوجيا هو الذي مكَن مثل هذا الواقع الجديد، كما يتضح من انتشار تطبيقات الدفع عبر الهاتف المحمول. ولكن تحويل الخدمات المالية سوف يتطلب إنشاء نظام جديد تماما لمواكبة التقدم المحرز في الاتصالات منذ ظهور الإنترنت والهواتف الذكية. فالهواتف المحمولة اليوم عبارة عن أجهزة كمبيوتر قوية، لذا سيكون من العبث عدم تعظيم استخدامها. كما يرى مقدما الفكرة بأن تحقيق هذه الرؤية يتطلب تعاونًا استباقيًا بين السلطات العامة ومؤسسات القطاع الخاص، حيث تعمل الورقة البحثية كدعوة للعمل لهذه الكيانات لإنشاء أساس قوي.

وفي قلب الفكرة يوجد ما يسمى بالدفتر الموحد Unified ledger أو ما يمكن اعتباره لوحة نتائج عملاقة Scoreboard. يمكن للعملاء استخدامها لتتبع النشاط في محافظهم الإلكترونية، والتي ستحتوي على أنواع مختلفة من العملات، سيمثل بعضها الأوراق المالية، والبعض الآخر سيحل مكان الودائع المصرفية، وقد يتكون النوع الثالث من العملات الرقمية، أو العملات الرقمية للبنوك المركزية  CBDCمن دول مختلفة، أو عملات مستقرة Stabelcoins وهي العملات الرقمية المربوطة بأصل مالي.

وبالتالي، فإن” فِنترنت ” تعتبر رؤية لأنظمة بيئية مالية متعددة متصلة ببعضها البعض، تمامًا مثل الإنترنت. وهي تهدف إلى تمكين الأفراد والشركات من خلال مساعدتهم في السيطرة الكاملة على حياتهم المالية. فتطبيق التكنولوجيا يعني أن المهام التي كانت مكلفة وتستغرق وقتًا طويلاً، مثل إجراء مكالمة هاتفية إلى الخارج أو حجز غرفة فندق في مدينة غير مألوفة، يمكن القيام بها الآن بنقرة إصبع. إن شبكة ” الإنترنت المالية ” تهدف إلى تحقيق نفس النوع من التقدم في الخدمات المالية.

وسيكون هذا النظام الجديد مهمًا بشكل خاص للاقتصادات الناشئة والنامية، حيث تظل هناك فجوات كبيرة في الوصول إلى الخدمات المالية على الرغم من الجهود المبذولة لتعزيز الشمول. والعديد من الخدمات ببساطة غير متوفرة أو غير متاحة على نطاق واسع، وخاصة للأشخاص الذين يعيشون في المناطق النائية ومن ذوي الدخول المنخفضة. وحتى عندما يتمكن الناس من الوصول إلى المنتجات المالية، فإن استخدامها غالبًا ما يكون مكلفًا وبطيئًا.

لا شك بأن الاختراقات المهمة في السنوات الأخيرة قد مهدت الطريق أمام الإنترنت المالي. ومن الأمثلة على ذلك الرمزية Tokenization، حيث يمكن للرموز التي تمثل الأصول الرقمية تحديد الملكية بشكل فريد وكذلك القواعد المعمول بها. ومن الأمثلة الأخرى الدفاتر القابلة للبرمجة، والمنصات الرقمية التي تجمع بين وظائف حفظ السجلات لقواعد البيانات التقليدية وترتيبات الحوكمة المطلوبة لتحديثها.

ومن المهم الإشارة الى أن إطلاق العنان لهذا الابتكار المالي الهام وبناء شبكة مترابطة سلسة، يستوجب الجمع بين كل هذه العناصر وكسر حواجز النظام المالي الحالي. وعلى وجه التحديد، فإن الجمع بين الأصول الرمزية المختلفة على دفاتر موحدة قابلة للبرمجة من شأنه أن يقلل بشكل كبير من الحاجة إلى أنظمة المراسلة والمقاصة والتسوية المطولة التي تخلق تكاليف إضافية وتستغرق وقتًا أطول وتحد من الوصول إلى الائتمان والخدمات المالية الأخرى.

ومما لا شك فيه بأنه وفي أعقاب الازمة المالية عام 2008، تعرضت صناعة الخدمات المالية لأزمة معقدة، وقد ترتب على تداعياتها ظهور موجة جديدة من الابتكارات المالية التي كان من شأنها إحداث تحوّل في الصناعة وإطلاق طفرة جديدة في مجال التكنولوجيا المالية. كما ولدت الأزمة فرصاً للشركات الجديدة للتدخل والاستجابة لاحتياجات الأفراد والشركات الصغيرة، من خلال تقديم تمويل ميسّر وتعزيز المرونة في نظام الخدمات المالية. ومنذ ذلك الحين، شهد العالم تحولاً مستمراً في الخدمات المالية، حيث يتيح المبتكرون الجدد للمستهلكين كثيراً من الخيارات طوال الوقت، مع تسهيل الوصول إلى مجموعة واسعة من المنتجات.

في الختام، إذ كان المؤيدون يرون بأن الأدوات الجديدة والتقنيات تعمل على تخفيض تكاليف العمليات المالية، وتجعل الأسواق أكثر كفاءة، وتساعد على حل المشكلات الاجتماعية، وتسهم في النمو الاقتصادي، فإن المشككون فيها، يبرزون قضية التكاليف الباهظة على المدى الطويل، حيث أكد الاقتصادي الكندي ” جون جالبرايث” الدور الكبير للديون في مقولته: “يتضمن الابتكار المالي، بشكل أو بآخر، خلق الدين، وقد شهدت جميع الأزمات نمواً في الدين أصبح بصورة أو بأخرى خارج نطاق الحجم المقبول، وذلك بصورة خطيرة، مقارنةً لما يتوافر من وسائل للسداد”.

ومن مخاطر هذا الترابط المالي الكبير هو عدوى الأزمات المالية التي تنتقل كالنار في الهشيم انطلاقاً من الأزمة المالية عام 2008، الى أحدثها أزمة بنك “سيليكون فالي” في الولايات المتحدة وامتداد أثره في الداخل وإلى الخارج. أضف الى ذلك مخاطر توقف الأنظمة المشغلة لتلك الخدمات كتعطل كابلات الانترنت، أو كما شهدناه مؤخراً، حين قامت شركة ” مايكروسوفت ” الأمريكية بتحديث أنظمة الأمان لديها مما أدى الى أعطال ومشاكل كبيرة وواسعة لدى الشركات والأفراد في أكثر من دولة في العالم. فالتقدم والتطور في كافة جوانبه هو سنة من سنن الحياة والدول والمجتمعات، ولكن يبقى الخوف من المخاطر التي قد يحملها نتيجة التشبيك والترابط العالمي والتي قد تتسبب أضرار توقفها أو تعطلها في محو العوائد والمنافع المتوقعة منها.

حسّان خضر، باحث وكاتب لبناني

باحث في الشؤون الاقتصادية وله دراسات وتقارير مهنية معمقة تتصل باقتصادات مجلس التعاون الخليجي والاقتصادات العربية بشكل عام. عمل في مؤسسات اقليمية مرموقة منها بنك الكويت الوطني والمعهد العربي للتخطيط، ويعمل حالياً خبيراً في ادارة البحوث في بنك الكويت المركزي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى