يُعتبر الاستشراف العلمي والتقني بمثابة سعي إلى تبصّر مآلات العلم وتطوّره، والنظر إلى مستقبل الإنسانية من خلال التحولات العلمية وتأثيرها على المجتمعات والسياسات والتمثلات الفردية والجماعية للحياة والوجود والكون. والاستشراف العلمي ليس ضربًا من التنجيم وإنما هو محاولة لفهم التراكم المعرفي واستثماره للولوج إلى عوالم معرفية وعلمية جديدة، والتمكن من ريادة البحث العلمي وابتكار حلول للمعضلات التقنية العالمية والمشاكل التي تواجهها البشرية في ظل اتساع نطاق المخاطر الطبيعة والصناعية والبيئية و”التحكم فيها” وتجاوزها، لتحقيق القوة والتميّز والرفاهية.
ويحظى الاستشراف العلمي والتقني بكثير من الاهتمام من طرف الحكومات الغربية والشركات العالمية الكبرى وذلك لاعتبارات متعددة منها، ما هو معرفي وجيوسياسي وجيواستراتيجي وجيواقتصادي وحتى عقدي، ذلك أنّ مستقبل الدول رهين ليس فقط بامتلاكها التكنولوجيا الرفيعة فقط، بل كذلك التوقع والتخطيط للسبق في مجالات علمية معينة، واستشراف مجالات أخرى غير مسبوقة.
وهكذا فإنّ الاستشراف العلمي والتقني، يُراد به تبني مناهج كمية وكيفية معتمدة في الدراسات المستقبلية، وقواعد صارمة في استشراف مستقبل البحث العلمي والتقني، وتخيّل مشاهد مستقبلية لتأثير الاكتشافات العلمية والتقنية، على المجتمع وسلوك أفراده، وهو كذلك محاولة لتخيّل – بناءً على مؤشرات ومعطيات متعددة – مستقبل البشرية بكاملها. ولقد اهتم الفلاسفة وأدباء الخيال العلمي باستشراف تطور العلم والتقنية، فظهرت كتابات حول المدينة الفاضلة والفاسدة (Distopia)؛ مثل ألدوس هكسيلي والكاتب الروسي يافيغني زامياتين zamyatin، الذي توقع في روايته “نحن We”، ابتكار تكنولوجيا مراقبة البشر، وقد تأثر به جورج اورويل في رواية 1984. كما كانت روايات من الخيال العلمي، ملهمة للعلماء للتفكير في اختراع آلات عديدة، وساهمت السينما العالمية في توقع عوالم رفاهية الإنسان في المستقبل وكذلك تخيّل عوالم مرعبة، ينقرض فيها الإنسان أو تستعبده الآلات الذكية؛ مثل فيلم “Matrix”.
ويُعتبر المفكر الفرنسي جاستون بيرجي، من المؤسسين للمركز الدولي للاستشراف سنة 1955، والذي من خلاله أضفى الطابع المؤسساتي على الممارسة الاستشرافية، ووضع منهجًا للتقريب بين المعرفة الاستشرافية والسلطة، وجعل الاستشراف بكل أنماطه في صالح اتخاذ القرارات السياسية المناسبة، وتفادي آفات ومخاطر التقنية؛ بحيث اهتم المركز بمطارحة الإشكالات الأخلاقية المرتبطة بالتطور التقني، ونقد مفهوم التقدّم وتداعياته على المجتمع والعالم.
بينما ركزت مؤسسة راند الأمريكية، وكذلك معهد ستانفورد للبحوث، على توظيف الاستشراف التقني في خدمة المؤسسة العسكرية بالأساس.
ولا شك أنّ هناك صراعًا محتدمًا بين القوى الكبرى، حول صياغة خطط مستقبلية، لامتلاك مقدرات تقنية هائلة ومتميّزة، من أجل تحقيق توازن الرعب وكذلك التحكم في العالم. كما تتنافس الشركات الكبرى في الاستثمار في الابتكار والبحث العلمي، لتحقيق مكاسب اقتصادية والاستحواذ على الأسواق العالمية. وتسعى لجلب أفضل الخبراء والعلماء في النانوتكنولوجيا والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا الطاقات البديلة وتكنولوجيا الآلات الذكية والتكنولوجيات الرقمية والذكاء الاصطناعي والأمن الرقمي وتعلّم الآلة وابتكار تطبيقات ذكية جديدة في عدة مجالات، وتكنولوجيا المركبات ذاتية القيادة وغير ذلك.
وتبيّن لنا إحصائيات المنظمة العالمية للملكية الفكرية، هيمنة الدول الكبرى على امتلاك أكبر عدد من براءات الاختراع. كما تتصدّر سويسرا والولايات المتحدة الأمريكية والسويد التصنيف العالمي للابتكار، بينما تقترب الصين من المراكز العشرة، وهناك صعود ملحوظ وسريع لكل من الهند وتركيا.
ويتكوّن مؤشر الابتكار العالمي، من معطيات حول جودة المؤسسات ورأس المال البشري والبحث، والبنية البحثية وتطور السوق وتطور بيئة الأعمال والمخرجات المعرفية والمخرجات الإبداعية. و”لا زالت العديد من الاقتصادات تكافح لترجمة مدخلات الابتكار إلى مخرجات بكفاءة”، كما جاء في تقرير مؤشر الابتكار العالمي لسنة 2022.
وتعاني بعض الدول العربية من عدم جودة المؤسسات كذلك، وضعف البنية البحثية والمخرجات المعرفية والتكنولوجية والمخرجات الإبداعية. ويؤكد التقرير على كون الإمارات العربية المتحدة، قد حققت “قفزة كبيرة إلى الأمام هذا العام لتصل إلى المرتبة 31، لتقترب بالتالي من المراتب الثلاثين الأولى… وتقدمت 10 اقتصادات أخرى في الإقليم في التصنيف، بما في ذلك السعودية (المرتبة 51) وقطر (المرتبة 52) والكويت (المرتبة 62) والمغرب (المرتبة 67) والبحرين (المرتبة 72)”. بينما تونس في (المرتبة 73)، والأردن في (المرتبة 78)، وسلطة عمان في (المرتبة 79)، ومصر في (المرتبة 89)، والجزائر في (المرتبة 115)، وموريتانيا في (المرتبة 129)، والعراق في (المرتبة 131)”.
ولاحظ التقرير استمرار الفجوة في الابتكار بين الأقاليم، ولكن بالرغم من ذلك فإنّ إقليم جنوب شرق آسيا وشرق آسيا وأوقيانوسيا، يضيّقون الفجوة مع أمريكا الشمالية وأوروبا، ولا زال العالم العربي بعيدًا نوعًا ما عن تقليص ذلك.
كما بيّن تقرير مؤشر المعرفة العالمي لسنة 2023، صعوبات بعض الدول العربية في تحسين وضعها في التصنيف، لوجود اختلال في المنظومة التعليمية وقطاعات حيوية أخرى. ويتكوّن المؤشر من مؤشرات فرعية، هي التعليم قبل الجامعي، والتعليم التقني والتدريب المهني، والتعليم العالي وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والبحث والتطوير والابتكار والاقتصاد، “إلى جانب مؤشر فرعي خاص بالبيئة التمكينية التي تشخّص السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والصحي والبيئي الحاضن لهذه القطاعات”. وتُعتبر الإمارات العربية المتحدة (المرتبة 26) وقطر (المرتبة 39) والسعودية (المرتبة40 )، الدول العربية الثلاث التي تُعد ضمن قائمة الدول الأربعين في مؤشر المعرفة العالمي لسنة 2023.
ولا شك أنّ هناك عقولًا عربية، تحتاج إلى الاعتراف بها وتمكينها من بيئة علمية محفّزة، للنهوض بالابتكار والإبداع في العالم العربي، ومن هنا تبدو الحاجة إلى ضرورة وقف نزيف هجرة الأدمغة وتوسيع نطاق تشجيع البحث العلمي وصياغة مخطط عربي متكامل يستشرف اتجاهات البحث العلمي والتقني وإعطاء الأولوية لإصلاح المنظومة التعليمية والتربوية وتوجيه القطاع الخاص إلى الاستثمار في التكنولوجيا ودعم المقاولات الناشئة في مجال التكنولوجيا؛ ورصد التحوّلات العالمية المعرفية والتقنية وتوطين المجالات العلمية والتقنية التي ستشكّل مستقبل العالم.
وتكمن أهمية الاستشراف العلمي والتقني بالنسبة للعالم العربي ليس فقط في فهم الاتجاهات المستقبلية للتكنولوجيا وإنما كذلك في صياغة خطة استشرافية لتفادي الإقصاء الكلي من السباق العالمي حول امتلاك التكنولوجيا والعلوم والمعارف الضرورية لحجز مكانة مرموقة في المستقبل. ولذا فإنّ التخطيط العلمي والتقني من شأنه ضمان كرامة الشعوب العربية والأجيال القادمة والتحرّر من دوامة استهلاك التكنولوجيا الوافدة علينا، والانتقال من الاقتصاد التقليدي إلى اقتصاد المعرفة والإسهام في ترشيد التكنولوجيا لخدمة الإنسانية.
مصدر المقال : اضغط هنا