خمسون عاما مرّت على اتفاقية البترودولار التي أبرمتها المملكة العربية السعودية مع الولايات المتحدة في حزيران عام 1974، وشكّلت منعطفًا تاريخيًا في مسار الاقتصاد العالمي، إذ ربطت مصير النفط بالدولار الأمريكي، ورسخت هيمنة العملة الأمريكية على الساحة الدولية لعقود من الزمن.
لا شك في أنّ هذه الاتفاقية مربحة كثيرا بالنسبة للولايات المتحدة التي وجدت مصدرا مستقرا للنفط، وحافظت على مكانة الدولار كسيّد العملات، بحيث لم تعد أي عملة أخرى قادرة على منافسته، وذلك بعد ان اشترط الاميركيون على السعوديين التزام المملكة العربية السعودية ببيع النفط حصرا بالدولار الأمريكي، واستثمار الدولارات الكثيرة التي سيأخذونها مقابل نفطهم في أسواق وخزائن أمريكا كي يبقى الدولار في أرضه وبين جمهوره، مقابل التزام الولايات المتحدة الأمريكية دعم المملكة امنيا وتأمين الحماية العسكرية لها.
وعلى الرغم من أنّ الاتفاقية رفعت قيمة الدولار، ونصبّته على عرش الاقتصاد العالمي؛ الا ان مزايا الدولار كانت متجذرة وبعمق في النظام المالي العالمي منذ اتفاقية BrettonWoods ، بعد الحرب العالمية الثانية عندما أطاح الدولار بالجنيه الإسترليني، ومن ثم مع ربط الدولار بالذهب، على اعتبار أن الدولار هو أقوى عملة احتياط في العالم.
ومع هذا، فقد استطاعت بعض الدول الأوروبية والاقتصادات الناشئة، آنذاك، كاليابان وكوريا الالتفاف على الامتياز الامريكي، وراحت تشتري الذهب وتخزنه؛ الأمر الّذي أدّى الى انخفاض مخزون الذهب في امريكا، وارتفاع مستويات التضخم والعجز، فكان لا بد من تقديم بديل عن الذهب يعطي ثقلا للدولار، حتى جاء ريتشارد نيكسون بأجرأ القرارات وفك الارتباط بين عملة بلاده والذهب، وربطها بمورد استراتيجي مهم وهو النفط.
لقد أُبرمت اتفاقية البترودولار في أعقاب حرب أكتوبر عام 1973، عندما فرضت منظمة أوبك حظرًا على النفط ردًا على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل؛ الأمر الذي أثار قلق الولايات المتحدة من انقطاع إمدادات الطاقة وارتفاع أسعار النفط، ودفعها إلى البحث عن حلول تضمن استقرار أسواق الطاقة وحماية مصالحها الاقتصادية، فما كان من كيسينجر الا ان طار نحو بلاد العرب للقاء الأمير فيصل بن عبد العزيز واقناعه بالاتفاقية، والذي بدوره قبل بها بشروط أهمها: انسحاب إسرائيل إلى أراضي عام 1948، وسحب اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبيع أمريكا كل ما يريده السعوديون من سلاح وتكنولوجيا.
ومع انتهاء صلاحية هذه الاتفاقية اليوم، نسأل:
هل يموت زمن ارتباط النفط بالدولار كما مات عصر ارتباط الذهب بالدولار؟
وهل تتحرر المملكة العربيّة السعودية من البترودولار؟
في عالم السياسة، لا شيء ثابت والأحداث متغيرة.
وبعد٥٠ عاما من الاتفاقية، تغيرت العديد من الحقائق والاحداث والظروف الجيو- سياسية والاقتصادية، وظهرت وُجوه وقوى جديدة بدأت تنافس الولايات المتّحدة، وتهدد مستقبل هيمنة الدولار الأمريكي في الأسواق الأمريكية، الامر الذي يطرح علامات استفهام كبيرة حول مستقبل الاتفاقية.
ففي حين كانت ظروف الاتفاقية عند عقدها منطقية؛ فإنها لم تعد كذلك الآن، بعد أن تحولت الولايات المتّحدة إلى دولة مصدِّرة للنفط؛ وبالتالي فقد انتفت حاجتها للنفط السعودي، التي كانت موجودة قبل 50 عاما.
كما ان ظهور التنين الصيني الذي حوّل البلاد الى أكبر مصنع في العالم والذي يقود العالم بقوة الاقتصاد ويسعى لكي تكون عملته الاقوى عالميا، عن طريق ربطها بمعادن منافسة للنفط كالذهب والمعادن النادرة يعدّ تحديا كبيرا للولايات المتحدة. فالصين، وهي أكبر مستهلك نفط في العالم، تعمل على توسيع العلاقات مع السعودية منذ سنوات، وتعزيز التعاون معها في مجال الهيدرووكربونات والأمن والتكنولوجيا، اضافة الى توقيع اتفاقيات ثنائية مع دول اخرى للتبادل بعملتها المحلية وتسويق “اليوان”. فهل تشكل انتهاء صلاحية اتفاقية البترودولار نقطة جديدة لصالح الصين في حربها الصامتة مع الولايات المتحدة الأمريكية؟
كذلك، فإن صعود قوى اقتصادية جديدة تسعى إلى تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي في تجارتها، يُضعف الطلب على الدولار، إذ تتّجه روسيا البوتينيّة مع حليفتها الصين ودول مجموعة بريكس إلى توسيع المدفوعات غير المرتبطة بالدولار، والابتعاد عن منظومة المراسلات SWIFT.
ومع انتهاء صلاحية اتفاقية البترو دولار، اصبحت المملكة العربية السعودية تمتلك المرونة اللازمة لاجراء مبيعات النفط بعملات متعددة، كالرنمينبي الصيني، والين واليوان، فهل اقترب أفول نجم سيد العملات؟
ان المملكة العربية السعودية واقعة اليوم بين مطرقة الصين وسندان أمريكا، فهي تتمتع بموقع استراتيجي هام في لعبة الصراع على النفط والعملات، وتتعرض الى ضغوط أميركية للحفاظ على الاتفاقية، بينما تقدم الصين بدائل مغرية.
من جهتها، تسعى امريكا بشتى المغريات لاستمالة السعودية، والتودد اليها، حاملة معها مشروع شامل اسمه التعاون النووي الدفاعي الاقتصادي التكنولوجي، الذي قد يكون “صفقة الأحلام” بالنسبة للسعودية لما تحصل عليه المملكة من امتيازات من جراء هذا الاتفاق، فهل تجدد أمريكا اتفاقية البترول؟ وهل يعيد التاريخ نفسه فتفرض السعودية شروطا شبيهة بالشروط العروبية التي طالب بها الأمير فيصل عام 1974؟
ختاما، لا تزال اتفاقية البترودولار مؤثرة في الاقتصاد العالمي، لكن مستقبلها غير مؤكد. ويشكل صعود القوى الجديدة وحرب العملات الدولية عاملاً هامًا في تحديد مصيرها. تسعى المملكة إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية والأمنية، مع الحفاظ على علاقات استراتيجية مع كل من الولايات المتحدة والصين؛ لكنّها اليوم أمام خيارات صعبة في مفاوضاتها مع كلا الدولتين لتحديد مستقبل نفطها وعملتها.
حتى تقرّر المملكة العربية السعودية تجديد الاتفاقية من عدمه، لا شك أنّ الاتفاقية باتت على مفترق طرق، وأنّها تشكل نقطة تحول في أحداث المنطقة والعالم.