تطلب الحصول على رخصة سائق في نيودلهي زيارة واحدة مدتها 20 دقيقة، يجتاز خلالها مقدم الطلب اختبارًا رقميًا، ثم اختبار قيادة سيارة سريعًا وفعالًا، ويتلقى السائق الجديد رسالة عند خروجه من مركز الفحص تقول، “تهانينا! سيصل الترخيص بالبريد في غضون 24 ساعة”، وفي الساعة 8.30 من صباح اليوم التالي، يسلّم ساعي البريد البطاقة الجديدة الأنيقة المدعومة برقاقة إلكترونية.
ويمكن العثور على مثل هذه الخدمة الحكومية المتميزة في البلدان الفقيرة الأخرى أيضًا، لكن فقط من خلال دفع رشوة، والسر في العاصمة الهندية هو نظام تحديد الهوية الوطنية الذي يسمى “أدهار”، وتم طرحه على مدار العقد الماضي، وهو يغطي الآن جميع سكان الهند باستثناء جزء صغير من بلد يبلغ عدد سكانه 1.4 مليار نسمة. وكل شخص لديه رقم خاص مكون من 12 رقمًا، مدعوم ببصمات الأصابع ومسح شبكية العين، ما يسمح بإثبات فوري للهوية والإقامة، ولم تعد هناك حاجة إلى شهادات الميلاد الملطخة، أو فواتير الخدمات المجمعة أو عقود الإيجار.
ونظرًا إلى النطاق الهائل في الهند، وبفضل العدد الكبير من الموظفين والعمال ذوي المهارات العالية، تحولت حكوماتها في المقاطعات المختلفة، بشكل متزايد إلى حلول عالية التقنية للتعامل مع جميع أنواع المشاكل، وبشكل عام خففت الأعباء عن كاهل الحكام والمواطنين، على الرغم من بعض الثغرات المتوقعة، وحسّنت البنية التحتية الإدارية، مثل “أدهار”، خدمات عامة مثل المدفوعات الرقمية، والتسوق عبر الإنترنت، والتعليم عبر الإنترنت، ومع ذلك وبسبب حجم الهند وفقرها على وجه التحديد، لايزال عشرات الملايين غير مشمولين؛ لأنهم فقراء، أو أميون، أو معاقون، أو يفتقرون إلى الكهرباء، أو لا يمتلكون هاتفًا ذكيًا، أو لا يتوافر لديهم اتصال بشبكة هاتف نقال أو “واي فاي”.
ولنأخذ على سبيل المثال، رينا ديفي، وهي أمّ لطفلين صغيرين في بيهار، أفقر ولاية في الهند، وبعد وفاة زوجها العام الماضي، كان من المفترض أن تحصل على معاش أرملة وعرض وظيفي، من بين أمور أخرى، لكن عندما التقى الباحث، فيوم أنيل، والخبير الاقتصادي، جان دريز، بالسيدة ديفي عن طريق المصادفة، وجدا أنها فقدت بطاقة الهوية الخاصة بها، ففقدت أيضًا إمكانية الوصول إلى المزايا، ومع عدم وجود هاتف، وعدم وجود عنوان بريدي مسجل، وعدم وجود سجل لتاريخ ميلادها، لم تتمكن ديفي من استرداد رقمها الفريد، ولمدة أربعة أشهر حاول الأكاديميان إعادة تسجيل ديفي، وأخيرًا بذل مسؤول لطيف جهدًا إضافيًا، ووجد ملفها وأصدر بطاقة جديدة.
وكانت ديفي محظوظة للحصول على المساعدة، وفي بعض الحالات المأساوية مات أشخاص جوعًا، بعد أن فقدوا الوصول إلى الغذاء المدعوم، لأنهم لا يستطيعون ربط بطاقاتهم التموينية القديمة ببطاقات “أدهار” الجديدة، أو لأن قارئات بصمات الأصابع في البلدات النائية لا تعمل بشكل صحيح، وفي حالات أكثر شيوعًا يستغني الفقراء عن المساعدة الحكومية.
وتُظهر الاستطلاعات الأخيرة التي أجراها “لوكنتيتي”، وهو مركز للاستطلاعات، أن أربعًا من أصل خمس عائلات هندية تستخدم مخططات الإمدادات الغذائية العامة، التي يقول 28% منها، إنهم حُرموا من الحصص الغذائية في مرحلة ما، بسبب مشاكل مع نظام الهوية “أدهار”. ويذكر أن الهوية البيومترية ساعدت في الحد من السرقة والفساد، لكن بشكل أقل من الإصلاحات غير التقنية لنظام الغذاء.
كما أن هناك ثغرات كبيرة في مخططات الحكومة الأخرى، وسرعان ما تراجعت حملة التطعيم ضد “كوفيد-19″، في الهند، التي بدأت في كانون الثاني/ يناير، وليس فقط لأن الحكومة فشلت في الحصول على جرعات كافية، إذ لا يمكن حجز موعد لأخذ التطعيم إلا عبر خدمة “كووين”، عبر الإنترنت. وثبت أن هذا سهل للأشخاص الذين يعرفون القراءة والكتابة واستخدام الأجهزة الحديثة، ولديهم بعض معرفة ولو بسيطة باللغة الإنجليزية.
وكان على معظم أولئك الذين ليس لديهم مثل هذه المعارف، وهم الأغلبية العظمى من الهنود، الانتظار حتى شهر حزيران/يونيو، عندما بدأت الحكومة بهدوء في الاعتراف بالتقصير، وتقترب الهند الآن من إعطاء مليار جرعة من اللقاح المضاد لفيروس “كورونا”، وهو إنجاز ملحوظ، لكن ربع الذين تزيد أعمارهم على 11 عامًا فقط، تم تطعيمهم بالكامل.
وتم تصنيف برنامج اجتماعي من بين أكثر الشبكات نجاحًا في الهند، وهو عبارة عن شبكة تأسست قبل عقود، من نحو 1.35 مليون روضة أطفال تقدم وجبات مجانية، تُعرف باسم “أنغان واديس”. وقد عانت الشبكة اضطراب التكنولوجيا الفائقة. وفي مارس، تلقت جميع العاملات في الشبكة، وهن نساء يحصلن على أجور أقل من 150 دولارًا في الشهر، تعليمات باستخدام تطبيق جديد للهواتف الذكية توفره الحكومة، وقد يؤدي عدم تحميل بيانات الفصل الدراسي إلى تعليق الأجور والإمدادات الغذائية، ما يهدد مصدرًا حيويًا للتغذية لأفقر أطفال الهند.
وتقول العاملات إن التطبيق صعب الاستخدام، لأنه متاح باللغة الإنجليزية فقط، وهي لغة لا يفهمها معظم الناس، ويستهلك الكثير من ذاكرة الهاتف لدرجة أنه يُعطل هواتفهم الذكية الرخيصة، ولا يملك الكثيرون حتى هاتفًا، أو كهرباء، أو شبكة هاتف محمول في قراهم، وبينما تساءل البعض عما هو الخطأ في الدفاتر المكتوبة التي احتفظت بها رياض الأطفال بعناية لسنوات، يبدو أن التغيير هو أن الحكومة تريد الآن المزيد من السيطرة والمراقبة.
ويقول الخبير الاقتصادي جان دريز: “في مخطط تلو الآخر، نجد أن التحول الرقمي أصبح له هدف واضح”، ومثل العديد من منتقدي التوجه الحكومي نحو استخدام التكنولوجيا، يقول دريز إنه لا يعترض على هذا المبدأ، مشيرًا إلى مخطط في ولاية أندرا براديش الجنوبية، تم إلغاؤه تدريجيًا بعد إدراج “أدهار”، الذي استبدل ببساطة البطاقات التموينية القديمة بالبطاقات الذكية، وقد أحبها الناس لأنها كانت بسيطة وعملية.
وتأتي المشكلة عندما ينسى مؤيدو التكنولوجيا في مقاطعة بنغالور، أنهم يعيشون في جزء فقير للغاية من الهند، ويتفاقم هذا الانفصال بعد ذلك من قبل السياسيين، الذين يبحثون عن حلول سريعة ومثيرة، ويسارعون إلى تنفيذ المشاريع من دون دراسة مناسبة، فيما يتم تجاهل الأساليب الأبسط.
وفي تجربة عشوائية، قام بها باحثون من المكتب الأميركي للأبحاث الاقتصادية، من أجل محاولة تحسين أداء رياض الأطفال “أنغان واديس”، وذلك بالاستعانة بعمّال بدوام جزئي، كانت النتيجة مبهرة، إذ أصبحت المعلمات يخصصن المزيد من الوقت في تعليم الأطفال، والاهتمام بصحتهم، والقيام بأعمال إدارية. كما تحسن أداء التلاميذ بشكل ملحوظ، ومع ذلك فإن ميزانية الحكومة المخصصة لشبكة رياض الأطفال ظلت كما هي، بينما تضاعف الإنفاق على التقنية، وخلال سعيها الحثيث لتصبح اقتصادًا حديثًا ورقميًا، يُخشى أن تُهمل الهند مواطنيها الفقراء، الذين هم بحاجة ماسة إلى الاستفادة من مثل هذه الخدمات.
المصدر: اضغط هنا