إقتصادالاحدث

الثَراءُ المُتَقَلِّبُ: مُقَدّمات لاضطرابٍ عَميقٍ في بُنيَةِ الاقتصادِ العالمي | بقلم د. بيار الخوري

شهدت بدايةُ هذا العام تقلُّباتٍ كبيرة في ثرواتِ كبارِ أثرياء ومليارديرات العالم، تراوَحت في بعضِ الحالات بين 10% إلى 15% في فترةٍ وجيزة. على سبيلِ المثال، خسر إيلون ماسك، الذي تُقَدَّر ثروته حسب “فوربس” ب352.6 مليار دولار، أكثر من 31 مليار دولار في 24 ساعة بسببِ انخفاضِ أسهم شركاته. وتجاوز إجمالي الانخفاض في ثروته منذ بداية العام 100 مليار دولار، قبل أن يتعافى مع تعليقِ تطبيق الرسوم الجمركية الأميركية على الشركاء التجاريين حول العالم. في غضون ذلك، انخفضت ثروة جيف بيزوس، الذي تُقَدَّر ثروته حسب “فوربس” ب189.1 مليار دولار، بأكثر من 23 مليار دولار بسبب تقلّبات سعر سهم شركة “أمازون”. وأغلق إجمالي خسائر شركة “أبل”، التي تبلغ قيمتها السوقية حوالي 3.3 تريليونات دولار، عند أكثر من 500 مليار دولار في يومٍ واحد عقب الإعلان عن الرسوم المذكورة. هذه الأرقام المُذهلة، التي كانت ستُشَكّلُ أزمةً اقتصادية لدولٍ بأكملها، تُسَجَّلُ الآن كحركاتٍ يومية في تقارير السوق، مما يعكُسُ حجمَ الفجوة بين ما يُنتَجُ فعليًا في الاقتصاد وما يَتوَرَّمُ رقميًا في الأسواق المالية.

تُثيرُ هذه الظاهرةُ تساؤلاتٍ هيكلية: كيفَ يُمكِنُ لنظامٍ اقتصادي أن يبني قوّته واستقراره على ثروةٍ تتقلّصُ أو تتوسَّعُ بمئات المليارات في غضونِ ساعات؟ ما هي آثار ربط هذه الثروة بسوقٍ مالية مُتقلِّبة، بدلًا من إلانتاج المادي الملموس؟

إنَّ تقلُّبًا يتراوح بين 10 و15٪، على الرُغم من أنه يبدو قابلًا للإدارة في ظلِّ النظامِ الحالي، يكشفُ عن هشاشةِ الأُسُس التي تقوم عليها القيمة والثروة. إذا حدثت هذه المعدّلات خلال فترات الهدوء النسبي، فماذا قد يحدث في لحظةِ أزمةٍ حقيقية أو انهيارٍ مالي أو اضطرابٍ جيوسياسي عالمي؟ ماذا لو وصل هذا التقلُّب إلى 30 أو ربما 50٪ خلالَ فترةٍ قصيرة، فلن نتعاملَ حينها مع مجرّدِ تقلُّبٍ مالي، بل مع أزمةٍ هيكلية تمسُّ جوهرَ النظام المالي العالمي.

ترتبطُ الثروة الهائلة التي تُسيطرُ عليها حفنةٌ من الأفراد ارتباطًا مباشرًا بقيمة أسهم الشركات (Big Tech) التي تسيطر على ما بين 30 و50٪ من الاقتصاد الرقمي العالمي، بما في ذلك القطاعات الحيوية مثل البيانات والذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية والإعلان والنقل التكنولوجي. سيؤدّي انخفاضٌ بهذا الحجم في ثروة هؤلاء الأفراد إلى تجميدِ الاستثمارات، واضطراباتٍ في أسواق العمل، وتحوّلاتٍ في سلاسل التوريد، وانكماشٍ في الابتكار. والأهمُّ من ذلك، أنَّ هذا النوعَ من التقلُّبات لا يَعكُسُ هشاشةَ الأسواق فحسب، بل هشاشة مراكز القوّة نفسها.

لم تَعُد الشركاتُ الكبرى مجرَّدَ مؤسّساتٍ اقتصادية؛ بل أصبحت ركائزَ النظام العالمي الجديد، تُمارِسُ نفوذًا اقتصاديًا وإعلاميًا وحتى سياسيًا. لذلك، فإنَّ أيَّ تصدُّعٍ في القيمة السوقية لهذه الشركات يُهدّدُ الاستقرارَ العالمي بطرُقٍ عديدة، من الفوضى الاقتصادية إلى إعادةِ التشكيك في معنى القِيَمِ الاقتصادية.

نَجِدُ هذا الخطر في نظرياتٍ عديدة: من كارل ماركس، الذي تحدّثَ عن مَيلِ رأس المال نحو التركيز والانفجار الدوري، إلى الاقتصادي الأميركي هيمان مينسكي، الذي جادلَ بأنَّ الاستقرارَ الظاهري يُولّدُ سلوكًا ماليًا مُفرِطًا يؤدّي إلى الأزمات، إلى الاقتصادي الفرنسي توما بيكيتي، الذي رَبَطَ تَراكُم الثروة بتزايُد التفاوت، إلى الأميركي-اللبناني نسيم نقولا طالب، الذي يتناول عمله مشاكل العشوائية والاحتمالية والتعقيد وعدم اليقين والمخاطر في الأسواق، الذي حذّر من هشاشة الأنظمة الكبيرة أمام الصدمات غير المُتَوَقَّعة، إلى الاقتصادية الإيطالية-الأميركية مارينا مازوكاتو، التي طرحت تساؤلات حول القيمة الحقيقية في الاقتصاد الحديث.

إذا كانت التقلُّباتُ الحالية مُجرّدَ صدمةٍ نظامية، فإنَّ استمرارَ هذه الاتجاهات أو تفاقُمها قد يفتحُ البابَ أمامَ انهياراتٍ أكثر تعقيدًا، الأمر الذي يَجعَلُ التشكيك في مستقبل التراكُم الرأسمالي وتركيز الثروة ضرورةً ملحّة لا ترفًا فكريًا.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى