الدعم اللبناني… تصدير بالاحالة | كتب د. محي الدين الشحيمي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
ان للدعم أهداف عديدة في السياسة الاقتصادية وفي مناخ استقراري متوازن، فهو أسلوب محوري لبلوغ غايات مرجوة ومحقة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من حيث :
1- توسيع فرص الحصول على السلع والخدمات الاساسية وبعدالة .
2- الحد من التقلبات في الأسعار السوقية للسلع الاستراتيجية ودعم استقرارها .
3- رفع القدرة التنافسية في القطاعات الوطنية المنتجة .
4- حماية شريحة المنتجين المحليين وتحصين الخطط الانتاجية الوطنية .
5- تمكين محدودي الدخل وحمايتهم .
لقد كان الارتفاع الاستمراي لأسعار السلع وخاصة الاستراتيجية ولانخفاض قيمة الرواتب والأجور والعملة الوطنية بشكل خاص بفعل التضخم، السبب الأساسي لتوسع مدار سياسة الدعم، لكي يشمل سلع وخدمات أكثر لمواجهة هذه التحديات من خلال زيادة النفقات العامة، في محاولة للمجابهة في تقليص معدلات الفقر المتزايدة خصوصا مع تردي فعالية خدمات التأمين والضمان على أنواعها .
فعلى الرغم من الحاجة العملية اليها، الا أن الواقع وللأسف برهن لنا أن الاستمرار في تطبيق سياسات الدعم الاعتباطي لفترة طويلة يشوه الأصل الجوهري لسياسة الدعم بانحراف المبدأ عن هدفه المنشود، ويخلق لنا لجملة من التداعيات والآثار ولعل أبرزها ( التدهور في النفقات العامة بالاضافة للتشوهات في القيمة السعرية والزيادة المضطردة للاستهلاك )، لكن الأهم من كل ذلك واقعة التهريب عبر الحدود .
كان بامكان الدعم أن يكون طبيعيا في بلد عادي بسعر صرف موحد للعملة، الا أن الحالة الشاذة التي وصلت اليها دولة هشة مثل لبنان، حيث تفلتت السلطة من آداء واجباتها اتفاقيا،وتنصلت من مسؤولياتها نفعيا وسقطت في ادارتها لمؤسساتها وحمايتها لنقدها مصدر سيادتها، وأصبح لدينا تشعب لأسعار صرف غب الطلب وعلى حسب غاية أصحاب المصالح، فكان حري بالدولة التنبه بأنه من الصعب الاستمرار في تمويل وتغطية هذه الهرطقة المسماة دعما، والتي لا تفيد لا المواطن العادي ولا محدودي الدخل, فتم تهويد الدعم وتجويفه بشكل متعمد لجهة الكيفية العرجاء في توزيع الموارد الاقتصادية .
هي اذا تداعيات كان يفترض لأجلها اعادة النظر في آليات الدعم الحكومية والشروع تدريجيا في عملية اصلاحها وترشيدها بما يخدم المغزى منها وما يتناسب مع الواقع لكي لا تتحول الى نموذج سطو لسرقة موصوفة بتقنية ” التصدير للاحالة “، والتي حولت الأراضي اللبنانية الى ساحة احالة بانتقاص للأمانة تحال منها السلع الى وجهتها الأخيرة، مستفيدين من الجغرافيا اللبنانية بفارق الأسعار لزيادة الأرباح والاحتكار وتشجيع نموذج الفوضى السوقية، فما كان من الدعم المزمع سوى مطية لزيادة الربحية لأصحاب المصلحة من التجار والمحتكرين وأزلامهم من السياسيين والمصرفيين المتواطئين، وكل هذا الربح هو من المال الناس وودائعهم وحقوقهم وجنى عمره وتعب سنينهم .
فما كانت الغاية من هذا الدعم الهزيل الا لادخال عدد كبير من السلع والخدمات تحت قبة الدعم الرسمي وبوجود انهيار لقيمة العملة الوطنية والاختلاف في نظام الأسعار وبتمرد السوق السوداء على السوق العادية الرسمية، وبما أن الدعم كان على سعر الصرف الرسمي الحكومي والذي أصبح وهميا للعامة وبفارقه الكبير بين صيغته النظرية والحالة العملية لسعر السوق، فيتم الاستيراد للسلع على السعر المدعوم وبيعها على سعر السوق، والفرق بينهما هي الربحية التامة, وكل ذلك على حساب الشعب والمواطن، محولين الدعم من آلية لتخفيف الأعباء الى نموذج لزيادة العبء على المواطن وسرقة ما تبقى من ودائعه وتحميله كل الخسائر،بحيث أصبح الدعم الحكومي دعما للتاجر والفاجر والمحتكر السوقي .
فالدعم غير النقدي هو في الأصل ما تتنازل الدولة عنه على صورة جزئية من الموارد العامة بهدف خفض كلفتها المالية الى أقل من تكلفة التوزيع والامداد ضمنا، الا اننا لمسنا بأن الدعم اللبناني قد أصبح هدرا للاحتياط وخسارة للمال العام وعبئا على الناس وعلى حسابهم، بحيث أضحى الدعم اللبناني عملية للهروب باستعمال سعر الصرف أقل من سعر الصرف الواقعي لاستيراد السلع بسعر منخفض من جيوب الناس، ومن ثم تصديره “احالة” بسعر السوق العالمي وكسب الأرباح منتهزين حالة الفوضى النقدية اللبنانية واستشراس السعر الأسود للدولار في السوق الحقيقية وكأنه دعما للكارتيرات .
فكان الأفضل من السلطة اللبنانية اعادة النظر في نموذج الدعم المريض بهدف ترشيده،منذ البداية واعادة توجيهه للفئات التي تستحق تحقيقا لمبدأ العدالة الاجتماعية والمنفعة الدائرية والتي باتت مفقودة ولترميم الاختلالات المالية لكبح جماح اللاستقرار الاقتصادي، لذا يجب العمل على ازالة التشوهات السعرية مع الأخذ بالاعتبار الحرية التنافسية للقطاعات المتخبطة وتكثيف الجهود لاصلاح الضريبة الاستهلاكية وخصوصا على الطاقة والمشتقات النفطية واعادة توليف المؤسسات والشركات العامة في الدولة بشكل لا يؤثر على كفاءتها التشغيلية .
فلو كانت الدولة قائمة وأصدرت قرارا بوقف اعادة تصدير السلع المدعومة مباشرة لما وصلنا الى هذه المرحلة من تفاقم للأزمة المعيشية والارهاق المركب للمواطن بسبب الارتفاع بسعر الصرف نتيجة الانهيار المتسارع للعملة، لما كان لبنان قد تحول لمركز ضغط القيمة السعرية من خلال بدعة الأسعار الصرفية المتعددة بفوارقها الملتبسة والتي قضت على القدرة الشرائية للمواطن، فيما المستفيد من المعادلة هم الحيتان والسياسيين سماسرة المعلومات وواضعي القوانين والقرارات والتعاميم المعلبة .
فعملية تعزيز الدعم بهيكل اقتصادي مشوه يعتمد كل الاعتماد على الواردات هي الخطيئة، لأنها ستؤدي الى زيادة الكمية المراد دعمها وفقا لزيادة الطلب عليها، فهي فرصة لأنها مدعومة وباتت مصدر لجني الأموال والأرباح، وذلك ما يزيد وبشكل مصطنع من الطلب على السلع والمنتوجات وهو ما يكلف الحكومة المال الاضافي، والذي كان من الممكن انفاقه في قطاعات أخرى بفائدة أعم وخطط مرشدة، فالاستيراد للسلع المدعومة المبالغ فيه هو سبب مباشر للتهريب وهو أصل وجود دعمنا اللبناني الحكومة في الآونة الأخيرة قبل أن تتهاوى ساريته من تلقاء ذاتها .
ففي دولة فلتت فيها زمام المبادرة المالية والسيادة النقدية، وأصبحت عملتها تحت رحمة ووطأة الفوضى والمرابين والسوق السوداء وتجار الهيكل، يتحول الدعم من حماية للمواطن وضمانا وتحصينا له الى ابتزاز ونحر وسلبطة وسرقة، فيصبح الدعم نموذجا من سرقة لصالح أصحاب النادي المصلحي الواحد ” القلة الشاردة” المعادية للمصلحة العليا، وهم جميعهم في سبيل الاستفادة النافرة ولكسب المزيد من الأرباح .
فالبلد تحوّل وبشكل مجرد وساخر الى محطة احتياطية وانتقالية لاستكمال عملية التصدير بالاحالة، في تحويل وجهة السلعة النهائية بسعرها العالمي واللعب على وتر انهيار المنظومة المالية والاستفادة من فوارق أسعار الصرف، في تحويل السلعة لوجهتها النهائية بربح مضمون من بعد ما يكون قد اشتراها بسعر مدعوم, فكان الدعم اللبناني بتغطية من ودائع الناس وسرقة حر مالهم !!