إقتصاد

بين مجلسِ العُملة وتحريرِ سعرِ الصَرف: ماذا عن التيه؟ كتب البروفسور بيار الخوري

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن أفضلية اعتمادِ مجلسٍ للعملة (مجلس النقد) بديلاً من سياسات مصرف لبنان المركزي التي تتحدَّد بوسائل التدخّل في سوق القطع وسوق السندات وأسعار الفائدة، أي ما يُعرَف بعمليات السوق المفتوحة والتي قد تًحتمل ان يقوم البنك المركزي بطبع كمية غير مُحَدَّدة من العُملة إذا ما اضطرته استراتيجياته القيام بذلك.

رُغم ذلك، فإن النقاش الإقتصادي حول أفضلية اعتماد وإنشاء مجلس العُملة في لبنان ليس جديداً. نُشير هنا الى دراسات دكتور ليال منصور، ورئيس معهد دراسات السوق الدكتور باتريك مارديني، اللذين قدّما إطاراً بحثياً لاعتماد مجلسٍ للنقد بديلاً من سياسات مصرف لبنان، بالإضافة إلى حملة الخبير حسن أحمد خليل في المجال عينه، قبل وبعد انفجار أزمة سوق القطع في بيروت وانهيار سعر صرف الليرة.

بالإختصار فإن مجلس العُملة هو مجلس يقوم بالسماح بطبع عُملةٍ وطنية مُوازية تماماً لكمية العملات الأجنبية التي تدخل الى النظام الإقتصادي في بلدٍ مُعَيَّن. في ظل نظام مجلس العُملة لا يُمكن خلق النقد بطريقةٍ حرّة من خلال طبع النقود، بالتالي فإن ذلك يؤدي الى تثبيت سعر الصرف تجاه عملة دولية معينة او سلة عملات، ويسمح تخفيض المخاطر التضخّمية الى الحد الادنى، خصوصاً تلك المخاطر الناتجة عن استلاف واقتراض الدولة.

فالمعروف ان استلاف الدولة الداخلي ينشأ من ثلاثه مصادر: إما من جمهور المُستثمرين مباشرةً، وهو الأقل تأثيراً في التضخم؛ وإما من القطاع المالي والمصرفي، وهو رُغم مخاطره التضخّمية يبقى أقل تأثيراً من المصدر الثالث، وهو اللجوء الى البنك المركزي لطبع العُملة من أجل تمويل حاجات الإنفاق بالعجز للحكومة.

يلغي مجلس العُملة الخطر الثالث بالضبط، وهو مُصمَّم ليفعل ذلك. الأهمية الكبرى لاعتماد مجلس العملة تكون في تلك الدول غير القادرة على الحَوكَمة المالية السليمة، أي تلك الدول التي يخضع فيها الإقتصاد للمصالح السياسية وليس العكس. وباعتقادي أن لبنان هو بلد نموذجي اختبر الحَوكمة السيئة حتى الثمالة، حيث وسّعت المصالح السياسية ونظام المُحاصصة شهية واستعداد مصرف لبنان لخلق النقد.

بالتالي فإن طاقة هذا البنك على زيادة القدرة على الطلب في الإقتصاد، بسبب خضوع كل شيء للأنانيات السياسية، سوف تنتظم في إطار معادلة مجلس العُملة. لقد حوّلت التجربة اللبنانية هذه الطاقة من نعمةٍ تُمتِّع البنك المركزي بما تتمتع به كبريات البنوك المركزية في العالم، إلى نقمة أدّت الى انهيار الإقتصاد اللبناني.

ما هو أهم من ذلك هو الدينامية الإقتصادية التي تخلقها معادلة مجلس العُملة، لان تلك المعادلة – الدينامية سوف تدفع باتجاه أمرَين أساسيين:

أولاً: سوف تدفع السياسات نحو تشجيع الإنتاج والتصدير واستقطاب الرساميل من الخارج، لأن تلك هي الطريقة الوحيدة لإيجاد السيولة الطازجة الممكن طبعها او خلقها لتعزيز النشاط الإقتصادي.

ثانياً: وهو مهم جداً في لبنان، تدفع هذه المعادلة الى خلق انضباطٍ في المالية العامة بشكلٍ اضطراري. فحين لا تستطيع المالية العامة أن تُموّل العجز من طريق اللجوء الى البنك المركزي فهي مُضطَرّة بالتالي إلى اللجوء الى القنوات المالية الأُخرى من بنوك وغيرها. عندها سوف تكون مُضطَرّة إلى تامين إيراداتٍ مُستدامة مستقبلية مُقابل هذه الإستدانة، وإلّا عرض عنها الدائنون كي لا يضعوا أنفسهم تحت خطر تخفيض التصنيف وضياع السيولة المستقبلية (كما حصل مع المصارف اللبنانية في المرحلة السابقة).

يصبح ذلك أكثر صحةً أيضاً إذا قاربنا الموضوع من ناحية المُستثمر الأجنبي أو المُقرض الخارجي اللذين سيسألان بالضبط عن جدوى الإنفاق العام. هكذا يُمكن لمجلس النقد أن يحل الفجوَتين الأساسيتين التي يعاني منهما لبنان: فجوة الميزان التجاري وفجوة الموازنة العامة.

إن نجاح مُقاربة مجلس العُملة التي تمت في البلدان التي تحوّلت من الإشتراكية الى الرأسمالية ثم اندمجت في الإتحاد الاوروبي الجديد، يعطي فرصة مُمكنة للبنان لمقاربة حلّ مشكلته بهذه الطريقة.

السؤال الذي يدور حوله النقاش اليوم هو أيّهما أفضل سعر الصرف الحر أم مجلس النقد الذي يضمن سعر صرف شبه ثابت؟ لا إجابة عن هذا السؤال بعد، لأن هناك سؤالاً أكثر أهمية ينبغي على لبنان الإجابة عنه: هل تتوفّر الإرادة السياسية للخروج من نظام توزيع المنافع إلى نظامٍ يقوم على الإنجاز الإقتصادي المُستدام يكون الضامن للإستقرار السياسي؟ لا جواب في الوعي الجمعي اللبناني بعد! لا جواب في ظل التيه!

رابط المقال: اضغط هنا

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى