من المسئول عن الفوضى التي يعيشها العالم؟ هل الاقتصاديون هم السبب في ظهور اللامساواة بين البشر؟
هل يمكن القول بأن أمريكا هي المسئول الاول عن إنتاج جيل من الاقتصاديين ممن قاموا بتقسيم العالم إلى حفنة من أصحاب الملايين وغيرهم من المفلسين! تساؤل اجتهد الكثيرون في تفسيره، فلا زالت أصابع الاتهام تتجه نحو رجال الاقتصاد فيما آلت إليه أوضاع المجتمعات حاليا من حيث التفشي الواضح لظاهرة اللامساواة.
في خمسينات القرن الماضي، لاحظ أحد المحاسبين العاملين ببنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أن صناع القرار داخل البنك هم فقط مجموعة من المصرفيين والمحامين وبعض أصحاب مزارع الخنازير بولاية أيوا، وهنا شعر المحاسب بالأسى حيث لاوجود لرجال الاقتصاد في المشهد، كما تذكر عبارة شهيرة قالها رئيس مجلس إدارة البنك- والذي كان يعمل سمسارا بالبورصة سابقا- حينما سئل عن دور الاقتصاديين، حيث أجاب بأنه يحتفظ بالبعض منهم داخل قبو المبنى الخاص بالبنك، فهم في نظره يتجاوزون حدودهم ويحاولون التدخل فيما لا يعنيهم.
ويبدو أن الاتجاه السائد في أمريكا آنذاك كان يميل إلى إقصاء رجال الاقتصاد بوجه عام، فقد قام الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت بالاستغناء عن خدمات جون ماينارد كينز؛ وهو واحد من أهم الاقتصاديين في عصره، بزعم كونه مجرد عالم رياضيات نظري يبتعد كل البعد عن المجال العملي، وفي حفل الوداع الذي أقيم بمناسبة انتهاء فترة ولايته، حث الرئيس أيزنهاور الأمريكيين على استبعاد التكنوقراط من السلطة، وقد لوحظ أن الكونجرس في ذلك الوقت كان نادرا ما يقوم باستشارة رجال الاقتصاد في المسائل الهامة، حيث كانت الوكالات التنظيمية التابعة له تعتمد على بعض المحامين فقط.
وبنهاية الحرب العالمية الثانية واقتراب العالم من تحقيق نمو اقتصادي حقيقي، بدأ رجال الاقتصاد في الانتقال تدريجيا إلى مقاعد السلطة مؤكدين على أن البلاد قادرة بشكل فعلي على النهوض وتحقيق النمو الاقتصادي في حال تم تقليص دور الحكومة في إدارة الاقتصاد، محذرين من خطورة استمرار الأوضاع كما هي عليها وبخاصة في ظل سعي المجتمع الأمريكي نحو القضاء على عدم المساواة.
وشهدت الفترة ما بين عامي 1969 حتى 2008 ثورة اقتصادية هائلة، حيث أصبح الاقتصاديون يلعبون دورا هاما في أمريكا، فقد نجحوا في خفض قيمة الضرائب المفروضة على الأغنياء من أجل تشجيعهم على الاستثمار، كما قاموا بتخفيف القيود المفروضة على بعض القطاعات الرئيسية بالدولة كالنقل والمواصلات، والتصدي لنفوذ الشركات الكبرى، إلى جانب دفاعهم عن حقوق العمال والمطالبة بتطبيق قانون الحد الأدنى للأجور.
وكغيرها من الثورات، فقد تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن ، حيث لوحظ انخفاض معدلات النمو والمساواة بمرور الوقت، ولعل المقياس الحقيقي للدلالة على فشل السياسات الاقتصادية هو انخفاض متوسط العمر بالنسبة للشعب الأمريكي، فقد انعكست اللامساواة في الثروة على المجال الصحي
أيضا، ارتفع متوسط العمر لدى الأغنياء الذين يشكلون نسبة 20% من الشعب الأمريكي فقط ، وفي المقابل انخفض متوسط العمر لدى أشد الطبقات فقرا بصورة صادمة، حتى أن الفارق في متوسط العمر المتوقع بين النساء الفقيرات والثريات ارتفع من 3.9 سنوات إلى 13.6 سنة.
ومن ناحية أخرى، فإن اللامساواة قد انعكست بصورة واضحة على الديمقراطية الليبرالية، حتى بات واضحا أن المبادئ الوطنية المتجسدة في شعار “نحن الشعب” قد تلاشت تماما، فلم يعد هناك مساحة للفكر والعمل المشترك، ونتيجة لذلك فإنه قد يصعب إقرار السياسات اللازمة لتحقيق الإزدهار على المدى البعيد كالاستثمار العام في البنية التحتية والمجالات التعليمية.
وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ الاقتصاديون في تقلد المناصب الهامة بالدولة، حيث ارتفع عددهم من 2000 شخص في الخمسينات إلى نحو 6000 شخص بحلول نهاية السبعينات، وقد كان الهدف من توظيفهم في بادئ الأمر هو تقييم الأداء السياسي للحكومة، إلا أنهم صاروا بمرور الوقت شركاء في صناعة القرارات الهامة في الدولة، فأصبح آرثرفولكر بيرنز على سبيل المثال أول خبير اقتصادي يرأس مجلس إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 1970. وبعد ذلك بعامين ، أصبح جورج شولتز أول خبير اقتصادي يشغل منصب وزير الخزانة. وفي عام 1978 ، نجح فولكر في الترقي حتى انتقل من أروقة بنك الاحتياطي الفيدرالي ، ليشغل منصب رئيس البنك المركزي.
وكان ميلتون فريدمان آنذاك من أبرز الشخصيات التي أبهرت صناع السياسة في أمريكا، وبخاصة أنه كان مناصرا للاتجاه الليبرالي. وقام فريدمان بطرح حلول بسيطة للمشكلات الاقتصادية بالدولة، حيث قال عبارته الشهيرة:” إذا نجح البيروقراطيين في السيطرة على الصحراء، فسوف تعاني الدولة من نقص شديد في الرمال”.
ويمكن القول بأن الانتصار الأول لأفكار فريدمان قد تحقق عندما تمكن من إقناع الرئيس نيكسون بإلغاء التجنيد العسكري الإلزامي وإعادة تأليف الجيش من بعض المتطوعين المستأجرين بحيث يتم صرف الرواتب لهم في ضوء الأسعار المتداولة في السوق، مما يحقق في نظره؛ فائدة اقتصادية وسياسية كبيرة. كما تبنت إدارة نيكسون أيضا مقترح فريدمان بتحديد أسعار صرف الدولار مقابل العملات الأجنبية الأخرى، ولعل تلك الأفكار كانت الأولى من نوعها التي تقوم بتحديد قيمة سعرية لحياة الإنسان وذلك من أجل تبرير القيود المفروضة على بعض الإجراءات التنظيمية بالدولة.
وقد اجتهد الاقتصاديون المحافظون والليبراليون آنذاك في محاولة رسم سياسات اقتصادية فعالة ومؤثرة، كما اتفقوا على أهمية العمل على رفع قيمة الناتج المحلي وبالتالي رفع قيمة الدولار، وهنا بدأت الأصوات المطالبة بتحقيق المساواة في التلاشي تدريجيا، حتى بات بعض الاقتصاديين يؤكدون على أن الجهود المبذولة في سبيل إقرار المساواة قد تعوق المسيرة الاقتصادية للدولة.
وقد تفاقم الأمر بمرور الوقت، حتى بات التبرير لتفشي اللامساواة أمرا مشروعا، فأصبح الساسة يقولون بأن اللامساواة هي نتاج طبيعي للرأسمالية وما ترتب عليها من بعض الظواهر كالتقدم التكنولوجي والعولمة مؤكدين على أن تلك الأمور تخرج عن نطاق سيطرة صانعي القرارات بالدولة، ولكن حقيقة الأمر فإن ظهور المزيد من اللامساواة هو نتيجة حتمية لحفنة من القرارات الخاطئة التي تعطي الأولوية لمبدأ الكفاءة وتركيز الثروة وتغض الطرف عن مبدأ تكافؤ الفرص وعدالة التوزيع، وعليه فإنه يمكن القول بأن التقدم الاقتصادي كان السبب المباشر لظهور اللامساواة.
وفي الوقت الذي ننظر فيه إلى اقتصاد السوق باعتباره من أهم الإنجازات البشرية إلا أنه في الوقت ذاته لابد من التركيز على معيار جودة الحياة بالنسبة لجميع أفراد المجتمع فهو المؤشر الحقيقي لنجاح الدولة، وهنا يمكن القول بأنه قد حان الوقت لكبح جماح أفكار خبراء الاقتصاد والتي تركز على آليات صناعة الثروة فقط والعمل على رسم السياسات التي تهدف إلى تحقيق المساواة بين البشر.
رابط المقال الأصلي
اضغط هنا