على الرغم من أنه قد مضت على الثورة الرقمية عقودٌ عدّة، فليس هناك بَعد نظامٌ اقتصاديّ رقميّ عالمي. بدلًا، هناك رؤى مُتنافِسة للرأسمالية الرقمية، صاغتها في الغالب الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، والتي تعمل على تطوير نماذجها منذ سنوات عديدة وتقوم بتصديرها بشكل متزايد إلى الاقتصادات النامية والناشئة. في غيابِ توافقٍ عالمي، قد تُفوَّت على العالم فرصة إيجاد الحلول التكنولوجية الواعدة للمشاكل المُشتَركة.
السؤال، بالطبع، هو: ما نوع النظام الرقمي البديل المُمكن في عالم اليوم؟ كيف يُمكن استعادة الإنترنت لخدمة المواطنين بدلاً من المصالح السياسية والاقتصادية المُهيمِنة؟ لن يكون من السهل إعادة تنظيم الحوافز التي تدفع الاقتصاد الرقمي، ومع ذلك، فإن جهود صنع السياسات الأخيرة تعكس الطلب على أشكالٍ جديدة من الحكم.
تقود منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على سبيل المثال، جهودًا لمعالجة المُراجَحة الضريبية الدولية (arbitrage) – وهي ممارسة مُفَضَّلة بين شركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، عيّن الرئيس الأميركي جو بايدن نُقّادَ هذه الصناعة لقيادة المؤسّسات الرئيسة مثل لجنة التجارة الفيدرالية، وأصدر تعليماته للجهات التنظيمية للتحقيق في مشكلة قوّة المنصّات غير الضرورية في الأسواق الرقمية.
وبالمثل، أدخلت الحكومة الصينية قانونًا جديدًا لحماية المعلومات الشخصية، وتقودُ حملةً محلّية كبرى لمكافحة الاحتكار للسيطرة على السوق الرقمية المُتفجّرة في البلاد. وقد طور الاتحاد الأوروبي، بناءً على القوانين العامة لحماية البيانات، رؤية أكثر اتساعًا قائمة على الأخلاقيات لإدارة البيانات والأسواق الرقمية والذكاء الاصطناعي. علاوة على ذلك، تستهدف بلدانٌ مثل إسبانيا وألمانيا الآن نموذج الأعمال الخاص باستخراج البيانات بشكلٍ مباشر.
يدرسُ المُنظِّمون والسلطات الحاكمة في جميع أنحاء العالم كيفية إعادة تعريف أجنداتهم الخاصة بالذكاء الاصطناعي والبيانات، وتشجيع الجيل المقبل من اللاعبين الرقميين، وتشكيل المعايير العالمية لتُناسب رؤاهم الخاصة. ولكن إذا كان الهدف الرئيس لكلٍّ من هذه الولايات القضائية هو كبحَ جماحِ المنصّات الرقمية المُهيمِنة، فقد تكون هناك أرضية مشتركة لبناءِ نظامٍ رقميّ عالمي أكثر فعالية.
من المؤكد أن السلطات الرقمية في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لا تتفق على كل شيء. لكنها تشترك في رؤيةِ نظامٍ رقميّ أكثر انفتاحًا وتعاونًا. إذا كانت ستنسجم بشكل فعال وراء هذا الهدف الشامل، فإنها بحاجة إلى فهم وإدراك ما تواجهه. إن الرؤى المُتباينة للهيكل التأسيسي للإنترنت العالمي هي التي رسّخت أصلًا جذورًا عميقة.
في عصر البلقنة الإلكترونية أو بلقنة الإنترنت الناشئة، المعروفة ب”سبلنترنات” “splinternet”، فإن العزلة المعلوماتية آخذة في الازدياد. الناس داخل صوامع مختلفة لديهم وجهات نظر مختلفة اختلافًا جذريًا حول الحقائق، وبالتالي ما يُشكّل الحقيقة. لا يوجد حتى اتفاق حول كيفية تأمين وتنسيق الميزات الرئيسة للهندسة الرقمية، مثل “جي بي أس” (GPS). كل ولاية قضائية لها إطارها الخاص، سواء كان ذلك نظام “بيدو” (BeiDou) للملاحة عبر الأقمار الاصطناعية في الصين، أو نظام الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية الإقليمي الهندي، أو نظام “غليليو” (Galileo) الأوروبي.
هذا التشرذم في حَوكمة القوّة الرقمية والمعلوماتية تَرافَقَ مع تزايد عدم الليبرالية، حيث سعى العديد من البلدان إلى رقابةٍ اجتماعية أكثر شمولًا واستكشافِ طُرقٍ جديدة لتوزيع الدعاية والتسويق. إنخفضت التكلفة لتجربةِ أنماطٍ جديدة من الاستبداد الرقمي بشكل كبير، لأن الأدوات الأساسية باتت مُتاحة على نطاقٍ واسعٍ وسهلة الاستخدام.
دَعَمَت منصّاتٌ مثل فايسبوك بشكلٍ فعّال التكلفة –عن غير قصد، ولكن ليس بالضرورة بدون دراية أو معرفة– لإجراء حملاتِ تضليلٍ على نطاق واسع. إن بناء البنية التحتية للبرامج التكنولوجية اللازمة لإنشاءِ نظامٍ شمولي للمراقبة والرقابة الاجتماعية أصبح الآن سهلًا كما تجميع التطبيقات الصحيحة.
يُثيرُ النظام الرقمي الذي ظهر في غيابِ التنسيق العالمي شاغلَين أو خوفَين حاسِمين. الأول هو الجانب الرقمي للتحدّيات العالمية الكبرى مثل تغيّر المناخ والأوبئة، والتي هي مستقلة ولا علاقة لها بالحكومات الليبرالية أو غير الليبرالية. مثلما ستتم مواجهة آثار تغيّر المناخ بشكل غير متساوٍ، فإن التقنيات اللازمة للتكيّف مع المناخ والتخفيف من حدّته – أو لمراقبة الأوبئة – سيتم توزيعها بشكلٍ غير مُتساوٍ.
المسألة الثانية هي عدم توافق الرؤى المُتنافسة للاقتصادات الرقمية المستقبلية. لا يزال العديد من الاقتصادات النامية والناشئة يدرس كيفية توسيع وإدارة قدراته الرقمية بحيث تخدم التقنيات الجديدة استراتيجياته الأوسع نطاقًا لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام. يجب معالجة هذين الشاغلين معًا. إذا كانت تدابير تحسين الوصول إلى التكنولوجيا لا تأخذ في الحسبان استراتيجيات النمو المحلية والوطنية المختلفة، فقد تُرسِّخُ مستقبلًا اقتصاديًا رقميًا غير مرغوب فيه، حتى لو كانت تَعِدُ بإحرازِ تقدّمٍ في مواجهة قضايا أخرى مثل تغيّر المناخ.
إن مُعالجةَ هذه المخاوف مُجتمعةً لها علاقة مباشرة بالسعي إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030. سواء تعلّق الأمرُ بالصحّة العامة أو التعليم أو تغيّر المناخ، فإن السعي وراء التوافق العالمي يجب أن يحتل مرتبة عالية في جدول أعمال أيّ بلد أعلى من تأمين مكاسب جيوسياسية ضيقة. ولكن، بالطبع، يجب على الواقعيين أن يعترفوا بأن المنافسة الحالية بين نماذج التحكّم في البيانات وتصميم الأجهزة وحَوكمة النظام الأساسي سوف تلوح في الأفق بشكل كبير في أيّ مفاوضاتٍ مُتعدّدة الأطراف حول هذه القضايا.
بالنظر إلى هذا، يمكن لكلٍّ من القوى الرقمية الثلاث أن تأتي إلى الطاولة بعيون مفتوحة. إن إنشاء نظامٍ رقميٍّ عالمي أكثر استقرارًا وتماسكًا لا يجب أن يكون حول تحقيق التوافق الكامل بين النماذج الثلاثة. لكن الفشل في التفكير في كيفية ومكان عدم توافق هذه الطلبات الرقمية قد يؤدي إلى سباقٍ نحو القاع بدلاً من السباق إلى القمة. ما يهمّ في المدى القصير هو وجود درجة مُعيّنة من قابلية التشغيل والتعاون البيني في المناطق التي تمسّ التحديات العالمية.
بعد عامين من التعايش مع كوفيد-19، يجب على جميع القوى والمناطق الرئيسة أن تدرك أهمية مشاركة أنواعٍ مُعَيّنة من البيانات بحرية. يجب عليها الآن البدء في تحديدِ مجالاتٍ أخرى من الأرضية المشتركة. إن إنشاءَ نظامٍ رقميٍّ عالمي جديد هو أمرٌ ممكن، لكنه لن يصنع نفسه.